نواجه اليوم معضلة كبرى ضمن حدود وطريق ضيق المخارج، وذلك بتغيير وتبديل السياسة وتحويلها إلى دين من خلال إعادة تفسير الكثير من النصوص الدينية وتقديم قراءاتها للواقع المعاش، وعلى ضوء تلك التفسيرات نجد بأن هذه القراءات تتحول تدريجياً إلى أيديولوجيا دينية تجعل من السياسة وكأنها تبدو ممارسة دينية قد فُرِضت على المؤمنين أينما كانوا، محولةً الرؤية كاملة لمواقف دينية إقصائية تتبنى خطاب الكراهية، ذلك البعيد كل البعد عن الهويات الروحية للناس التي يجدونها في الدين مستشعرين راحتهم النفسية من خلالها.
هكذا تم توظيف الدين لخدمة السياسة، وهكذا استُخدم العنف وبُرِّر بإضفاء الشرعية على ممارسته، كذلك يتم استغلال تَديّن الناس ضمن قضايا ومآرب واقع المصالح، فما فَتِئَ الدين يوما من قوته العظيمة في إعجام إرادة الشعوب وتحريكها نحو التحدي والمقاومة، وهنا تبرز خطورة الايدولوجيا الأصولية التي تخلق العداء للحضارة المعاصرة وللآخر المختلف وكل تقدم حضاري وثقافي! فهي عادة ما تُهمل المصالح العامة للمجتمع وتعمل فقط على فرض رؤيتها الخاصة، لتجعله غارقا في دوامة من الصراعات الدينية والطائفية والعرقية، متناسية بأننا نعيش عصر التقدم العلمي والفكري والتغيير والإنجاز في جميع مناحي الحياة المختلفة، فلم يعد متاحا اليوم للبشرية أن تعيش عصور الجاهلية الأولى لترضي تلك الرؤية الأصولية المتطرفة التي لا زالت تعيش بفكرها ضمن تلك الحقبة الزمنية المتحجرة! كما أن الأصولية تتجاهل تماماً بأن ثقافتها البائدة تلك التي وُلِدَت ضمن عصورٍ تحمل ثقافة أصحابها ونمط حياتهم، إنما هي تختلف اختلافا جذريا عن واقعنا وعصرنا الحديث، فما الثقافة إلا نتاج فكري ينمو ليعيش ضمن عصره وواقعه وزمنه، وانعكاس لظروفه المُعاشة في وقته وحينه، كما أنها تحمل كافة المخرجات للبيئة الاجتماعية والنفسية التي أنتجتها، وهكذا فإن لكل عصر فكره وثقافته، ولكل ثقافة معطياتها، فلا يجوز بأي شكل من الأشكال فرض معطيات الثقافات القديمة على واقعنا المعاصر، فحقيقة معطيات تلك الآيديوليوجا إنما تتمثل في مجموعة من الأفكار المنغلقة على نفسها فقط، وبرأيي الخاص ومما لا شك فيه بأن سقوط تلك الأيديولوجيا الأصولية التي تناهض الحياة بكل تفاصيلها وتتعارض مع منطقها وتحرَم علينا تفاصيلها، بل وتتناقض مع الإنسانية لما تحتويه من كراهية وإرهاب جسدي وفكري، هكذا فإن سقوطها أمر لا بد مُحتَّم وهي مسألة وقت لا أكثر، قد يطول وقد يقصر، هذا ما لا أعرف، إنما علينا بالتمسك بما أمكننا من الحلول التي تنادي بفصل الدين عن السياسة، فالدين بقيَّمِه القادمة من رحم الثقافة هو مسألة فطرية ترتبط بالناس ارتباطا وثيقاً، لذا فمن الأجدر أن تُترَك للناس حرية ممارسة الأديان بعيدا من السياسة، وأن تمارَس السياسة بهدف السياسة واسمها لا باسم الدين، ولتُترك للناس حرية اعتقاداتها وأفكارها دون فرض القناعات والمواقف والتفسيرات لفكر معين عليها، ودون تخويفها وتكفيرها وتهديد حياتها بالخطر، فلا أحد يملك الحقيقة الكاملة المطلقة، لذا فلا يحق لأي إنسان أن يدعي بأنه صاحب الفكر الأفضل وأنه صاحب الفضيلة وأن له الحق بفرض فكره الديني على الآخرين.
علينا أن نتعايش ونتوافق دون أن نضر بقناعات الآخرين والسعي لإلغاء وجودهم، على الجميع أن يناضل لأجل استحضار كل القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية بكل أبعادها والتي تحقق المصالح العامة للجميع دون استثناء، لننبذ كل الأفكار الأصولية المتطرفة التي تدعو لإلغاء الآخر والقضاء عليه، فظاهرة بروز الأصولية الدينية المتطرفة تهدد مجتمعاتنا بخطر حقيقي يتربص بمستقبلها عبر خطابها المنغلق وتعصبها تجاه الآخرين ومجاهرتها بالعنف وتبنيه كحق طبيعي للدفاع عن مصالحها الخاصة مانحة إياه مسحةً مباركة مقدسة.
الآن وبعد كل ما وصل اليه الإنسان من تقدم علمي وتكنولوجي، لماذا يتمسك البشر بالأصولية وثقافتها البائدة؟ لماذا نصر على إحياء مقولاتها الآفلة؟ وكيف لنا أن نواري إنسانيتنا أمام سوق الاستهلاك الديني الذي طالما روجت له الفضائيات التلفزيونية ووسائل الاعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي لتروض به عقولنا وتشل به حواسنا حتى نستسلم حين نشاهد رجل الدين المنفعل الثائر الذي يحث الناس على ردود الأفعال الغاضبة العنيفة!
هكذا سُخِّرت المنتجات العقلية العلمية الحديثة للتآمر على عقولنا وإنسانيتنا معلنة حربها المقدسة على الحياة.
- صحيفة رأي اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق