كانت ثقافة المواطنة ولا تزال من الثقافات الهامة المؤثرة بشكل إيجابي فعال على كافة المجتمعات، فمن خلال هذه الثقافة تتأكد خصوصية المجتمعات وانتماءات افرادها، كما تتعزز الوحدة بين أبناءها وتتحرك مساراتها في اتجاهات إيجابية بما يُنمي قيم العدل والمساواة فيما بينهم ويشجعهم على المشاركة في الشؤون العامة والمساهمة فيها. وهكذا يكون الحال معكوسا في حال غيابها، كما يحدث الآن في مجتمعاتنا العربية بكل أسف! إذ تظهر كلمة المواطنة وكأنها كلمة شاذة غريبة ودخيلة على ثقافتنا الحالية، ويبدو أن هذا المصطلح في أبعاده الاجتماعية والثقافية لدينا غير كافٍ على المستوى الذي يشكل وعياً كاملاً به بما ينعكس على قيم الفرد وسلوكياته التي تعبر عن حبه لمجتمعه وانتمائه لوطنه .
لا يخفى على أحد بأننا نعايش اليوم حالة من الغياب التام لهذا المفهوم -المواطنة- عن قيمنا الوطنية والأخلاقية مع فقدان المناخ الإنساني الذي يفرض احترام الإنسان وحقوقه ، ومع انحسار قيم العدالة والمساواة وحرية التعبير والاعتقاد ، وعدم توافر الفرص المتكافئة أمام مختلف أبناء المجتمع الواحد بحيث تؤخذ في الحسبان دائما انتماءات المواطن السياسية ومستواه الاجتماعي وروابطه الدينية، كل هذه الأسباب مجتمعة تقف حائلا أمام مجتمعاتنا دون تحقيق أدنى مستويات التنمية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية .
ان من اهم العوائق التي تعترض ثقافة المواطنة ومبادئها وتحول دون تبنيها ، هي فكرة الهويات الأثنية والدينية أو الحزبية أو الطبقية التي ترتب الناس وتصنفهم وفقاً لها، وبناء عليه تفرض هذه الفكرة رؤيتها وأساليبها في التعامل مع جميع الهويات بكل أنواعها! وعادة ، في ظل غياب روح المواطنة يُستبدل انتماء الانسان للدولة بانتماء آخر قد يتم اللجوء اليه ظناً بأنه قد يقدم الحماية اللازمة من الظلم السائد أو خطر الهويات المختلفة أو الفساد! وبالطبع كل ذلك يجزّئ مبدأ المواطنة ويضرب به في العمق، بحيث يعتقد حامل فكرة الهويات الأثنية والدينية أو الحزبية بأن هذا الانتماء هو ذاته ما يمثل الانتماء للوطن! وهذا ما يتسبب بتصدع وشرخ المجتمعات وهدم بُنيتها كما وينشر الفتن ويؤدي لانعدام الحريات والتنكيل بالإنسان وحقوقه وكل ذلك بسبب عدم تقبل الهويات المختلفة من منطلق نظرة عنصرية تجاه الآخر، صاحب الهوية المختلفة، مما يؤدي إلى مزيد من الانقسامات والصراعات التي أصبحنا نشهدها اليوم كما الحال في بعض الدول العربية التي تعاني من الطائفية والعنصرية والتطرف، فعدم الاعتراف بالهويات الأخرى وعدم قبول الآخر المختلف يودي بالتأكيد إلى مزيد من العنف واستقبال موجات جديدة من الإرهاب بكل صوره وأشكاله ، سواء كان محلي بتحريك وتأييد من الداخل أو خارجي بتشجيع من الخارج وتحريض منه.
أن غياب ثقافة المواطنة تقَتل روح الانتماء في الفرد وتجعله يشعر بالاغتراب داخل وطنه ومحيطه، وتتسبب بهجرة كفاءاتنا الى الخارج ، كما تتسبب بنشر ظاهرة المحسوبيات والواسطة فيعم الفساد في كل مؤسسات الدولة وتنعدم ثقافة وقيمة العمل التطوعي فتغيب مشاركات المواطن في معظم الأنشطة الاجتماعية التطوعية المختلفة ، وتختفي معظم القيم الإنسانية السامية في سلوكيات الناس وتعاملاتهم وتصرفاتهم، كالتسامح وقبول الآخر واحترام حقوق الانسان وقيم التضامن والتعايش والتآخي ، وتَعُم حالة من الاستهتار وعدم المسؤولية تجاه المال العام أو الاملاك والمرافق العامة التي عادة ما نلاحظ تخريبها أو الاستيلاء عليها . حالة عارمة من الفوضى والانفلات التي تهدد الحياة الشخصية والاجتماعية لكل منا في وضعٍ كهذا .
أن علينا التفكير ملياً بما آلت إليه أحوالنا وسلوكياتنا مما نشاهده من مظاهر مؤلمة تعبر عنها . علينا بمراجعة ولاءاتنا لأوطاننا وتعزيز ارتباطاتنا العاطفية بها كما علينا بتعظيم واحترام كل قيم التعايش وقبول الآخر والكرامة الإنسانية، نحن نحتاج لسلطة تَخضع للقانون وتحترمه وتُخضِع الناس بالقانون، كما يقع على عاتق المثقفين ومنظمات حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع مسؤولية التوعية بثقافة المواطنة الحقيقية البنّاءة وتعزيز الانتماء لهوية الوطن أولاً وأخيراً وقبل كل شيء، وتفعيل المشاركة في المسؤوليات والشأن العام بما يعزز علاقة المواطن بوطنه ويخلق روح التضامن والمحبة بين أفراد المجتمع الواحد .
صحيفة رأي اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق