بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 30 يناير 2017

ثقافة الإستبداد ذات اللون الواحد !

يتضح واقع المستوى الثقافي للإنسان فيظهر جلياً عبر سلوكياته وتعبيره عن المواقف المختلفة، من خلال اعتقاداته المتّبعة وأفكاره وممارساته وتعاملاته، ومدى تذوقه وتقبله لشتى أنواع الفنون والثقافات المختلفة، ومن نمط العيش وطريقة خصائصه المتبعة في المجتمع والبيت والعمل، وكذلك مدى مشاركته واحترامه للرأي الآخر وإيمانه المطلق بحقوق الانسان واحترام القانون وكل المبادئ الإنسانية المُثلى.

من الأخطاء الشائعة بين الناس ذلك الاعتقاد بأن الثقافة تكمن في قراءة الكتب فقط! وفي الحقيقة هي تكمن أيضا في نمط وأساليب التفكير والسلوكيات والممارسات وطريقة الأداء والتعاطي مع الحياة والظروف المختلفة، لذا فإن تقدم وصلاح المجتمعات ورقيها لا يكمن إلا في المحتوى الثقافي والفكري لها، وبالتالي فإن عدم تطوير وتهذيب الثقافة بما يتناسب ومتطلبات العصر والمستجدات الحياتية يؤدي بالتأكيد لتراجع المجتمع وتخلفه.

تهيمن الثقافة الدينية على مجتمعاتنا فهي تقريبا المحتوى الرئيسي والمصدر الوحيد للمعرفة والاطلاع والحكم على الأمور، وهي الحاضرة المؤثرة بقوة على نهج التفكير والحياة والسلوكيات، حتى تكاد تنعدم أي ثقافة أخرى في ظلها، ليطغى اللون الواحد على كل الألوان في ثقافتنا بحيث تبدوا وكأنها تفتقر للتنوع والتلون والتعددية، والتفاعل والتواصل فيما بينها وبين الثقافات الأخرى المتنوعة المختلفة، وترفض مجتمعاتنا بثقافتها أي نقد فكري، معتبرة إياه نوع من أنواع التهجم على ثوابتها وتقاليدها، كما ترفض التغيير منتهجة أساليب التلقين والترديد وتقبل الأمر الواقع دون مناقشة أو تفكير أو تنشيط للعقل النقدي، ودون أي تجربة او معاينة او تمحيص، مما يؤدي لطمس الإبداع والتفكير والإنتاج.

هي ثقافة منغلقة على نفسها فتخشى التطور وترفض التغيير، وتعجز عن مواجهة ذاتها بالحقيقة التي أصبحت مرئية للجميع، كما تعجز عن مواكبة العصر وتحدياته، رافضة لكل من يخالفها في رؤيتها، فكيف السبيل إلى التطور ونحن لا نكترث لما وصلنا إليه من البؤس والتراجع! لا بد من مواجهة صادقة مع النفس للوصول الى رفض ثقافة الرجعية والاستبداد التي ما برحت أن تزرع جذور الفكر الإرهابي المتمثل فيها، بحيث نتمكن من اجتثاثه والتصدي له ولثقافة الخوف والتقاليد البالية والعادات السيئة، لقد أصبح الوضع لا يحتمل التأجيل أو التميع والتريث، فثقافة الاستبداد لم نعد نراها فقط في النخب الحاكمة أو في المجموعات أو القطيع، فالأمر قد تعدى ذلك بكثير، لقد انتشرت فوصلت إلى الافراد فيما بيننا كما وصلت للسلوكيات والممارسات اليومية والآراء والألفاظ والتعاملات، فبداخل كل منا شخص مُستبد يقوم بممارسة استبداده على كل من تطاله قدرته وإمكانياته وسلطته! فقد تشاهد الكثير من الآباء ممن يمارسون استبدادهم على الأبناء، كما تشاهد المدير أو المسؤول المتسلط باستبداده على الموظف، والموظف كذلك بدوره قد يستبد بموظف أقل منه درجة وظيفية، وكل منا قد يمارس التحكم والهيمنة والتسلط بمن هم أقل حظا منه وأضعف، وفي هذه الظروف التي نعيش بها الصراعات والفقر المدقع والتهميش والتعصب والجهل، فان واقع المرأة هو الأكثر بؤسا وتخلفا على الإطلاق، إذ لا زالت النساء في مجتمعاتنا تعاني استبداد المجتمع الذي لا يزال حتى الآن يحتفظ بنظرته الدونية لهن!

 ويستمد الفرد استبداده من منتجات هذه الثقافة المتخلفة بما استقاه من الاستبداد والقهر والإكراه والتجبر والظلم، مما يقودنا إلى التخلف عن مواكبة المجتمعات المتحضرة، ومن أسوأ ما تحمله ثقافتنا هو عنصريتها القميئة لكل مختلف عنها سواء بالدين أو العرق أو اللون أو الجنس، ورفضه أو اضطهاده وعدم احترام حريته في اختيار معتقده الديني، وها هو الصراع البشع الذي يدور بين السنة والشيعة في بعض البلاد العربية لا يزال يَمثُل أمامنا ولا سبيل للنجاة منه سوى تنحي هذه الثقافة المهترئة جانبا، وإحلال ثقافة بديلة، تنويرية اجتماعية علمية متحضرة ذات مرتكزات ورؤى فكرية واخلاقية، تواكب متطلبات العصر والتقدم الإنساني والعلمي، بحيث تتصدى لكل هذه الظواهر السلبية وغيرها، وتغوص فيها بحثا عن جذور المشكلة وأسبابها لإيجاد الحلول الممكنة والسبل التي من شأنها أن تكرس وتنشر ثقافة تقبل الآخر والاعتراف بوجوده وحقوقه، كما تدرب مجتمعاتنا على أساليب الحوار البناء بشكل عقلاني منطقي على أسس الاحترام والتقدير، وتحث على الإبداع العلمي والفكري، فكل ما نمر به من صراعات وتطرف ونزاعات داخلية، ما هو إلا نتيجة طبيعية لمفاهيم إقصائية الآخر وتأثيره السلبي علينا بما أنتج لنا من منهج تفكير وسلوك متدهور أدى لانحطاط وانهيار إنساني خطير! لذا علينا بإصلاح وتطوير ثقافتنا أولا، وذلك للابتعاد عن كل ما يحط وينال من القيمة الإنسانية للإنسان.

يَذكُر عبد الرحمن الكواكبي وهو أحد مؤسسي الفكر القومي العربي، الذي اشتهر بكتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) حيث قال: إن المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة، إلا بأعوانه من أعداء العدل وأنصار الجور، الاستبداد أشد وطأة من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السيل، أذل للنفس من السؤال!

منذ قرون عديدة ونحن نغط في سبات عميق ونحمل على كاهلنا تراث السلف والاجداد ونقوم باجتراره صباح مساء، وكأننا قد توقفنا عن انتاج الحياة، تمر السنوات فيتقدم البشر ونحن كما نحن لا نقوم إلا باستهلاك ما ينتجه الغرب الكافر بحسب تلك النظرة المتطرفة المنتشرة لدى البعض! والخطر الحقيقي إنما يكمن في فكرنا وثقافتنا البائسة، تلك التي قيدت عقول البشر ومنعتها من السير قدما نحو التقدم ومجاراة العصر.

نحتاج اليوم إلى الكثير من الشفافية والمصداقية والشجاعة لأجل التغيير المطلوب والتركيز على التنوع وتقبل الاختلاف، فهناك الكثير من المفاهيم السلبية المترسخة في ثقافتنا مما يجب علينا حذفها وتركها بعيدا دون العودة اليها وذلك لتنقية أفكارنا وسلوكياتنا وممارساتنا الحياتية من شوائبها التي لطالما تصادمت مع منظومتنا الإنسانية، فالوضع الصعب الذي نعيشه اليوم يتطلب منا وقفة حقيقية، وأعتقد بأن الأمور لن تكون مستحيلة في حال تضامنت وتضافرت وتكاثفت الجهود الواعية المخلصة من الجهات المعنية بالتغيير، من منظمات المجتمع المدني وإمكانياتها الواسعة بالتغلغل في المجتمعات ودورها في نشر ثقافة الحوار وتقبل الآخر ونبذ التخلف والجهل، وذلك بهدف المضي قدما نحو الأفضل اجتماعيا ومنهجيا، كما أن للإعلام دور مهم ومؤثر في ذلك باعتباره مسؤولاً عن نقل الكثير من الأفكار البناءة إلى الناس، ولا ننسى بأن للفن والأدب الإنساني المتنوع دور فعال في ذلك أيضا، فهو بكل تأكيد من شأنه أن يلفظ تنميط الآخر وإقصاؤه حين تُكَرس جهوده وأهدافه لذلك، بالإضافة إلى الدور الهام للمؤسسات الثقافية من خلال إصداراتها وتوزيعها للنشرات التوعوية والمجلات الهادفة بشكل مستمر وذلك لإلغاء وإبطال الفروق فيما بيننا وبين الثقافات الأخرى.

من حقنا أن نعيش بكرامة واطمئنان على حاضرنا ومستقبلنا، وأن تربطنا علاقات السلام والتعاون مع المجتمعات الأخرى لنشعر بالأمن والاستقرار، لذا علينا أن ندرك بأننا على هذه الأرض نحيا معاً لنتعايش سويا، فعقلية القتل والصراع والتطرف والكراهية، تلك التي تتغذى من الثقافة المظلمة ستذهب بنا بعيدا إلى هناك، نحو دمار شامل للإنسانية جمعاء! كفى حروباً وموتاً وقتلاً باسم الله وباسم الشعارات الرنانة الفارغة التي تفتقر للإنسانية، لننهي كل أشكال التعصب والاستبداد والتطرف، والحط من قدر الكرامة الإنسانية وقِيمها، كفانا رعونة وحماقة وقهراُ وموتاً، فنحن لا نريد المزيد من المقابر الجماعية!..

- صحيفة رأي اليوم 

الثلاثاء، 24 يناير 2017

في زمن الأقنعة وتعدد الوجوه من حولنا !

تحولات وتغيرات عديدة نعيشها اليوم في المنظومة القيمية لِبُنية مجتمعاتنا وتركيبتها، لتطغى بذلك كثير من التناقضات والأزمات الاجتماعية وبعض الظواهر التي تسببت بإرهاق الإنسان العربي وإنهاكه، من أهم تلك الظواهر السلبية التي توغلت في كل المناحي الحياتية والمعاملات والعلاقات وباتت تتفشى فيما بيننا لدرجة من الخطورة بأنها أصبحت مألوفة عادية، مما يؤثر على سلوكياتنا وتصرفاتنا بما ينعكس علينا بصورة واضحة تؤخر من تقدم مجتمعاتنا وتطورها، وهي ظاهرة النفاق الاجتماعي الخطيرة التي باتت الطريقة المتبعة بكل أسف، لنيل المطلوب والمقصود من رضى الناس وقبولهم وإعجابهم، للحصول على المصالح الخاصة والمراتب العليا، من خلال ارتداء وتبديل الأقنعة بحسب ما تقتضي الحاجة على حساب الأخلاق والقيم التي لم تعد ضمن قائمة الحسابات في واقع نعيشه ولا نحسد عليه، إذ لم نعد نفرق بين الصالح والطالح، ولم نعد نصدق الصادق لكثرة الكذب من حولنا، بات اللئيم يحل محل الكريم، واضمحل الصدق متراجعا ليغدو عُملة نادرة، وأصبحت المجاملات لكثرتها تهدد نسيج المجتمعات وتماسكها، يتلونُ البشر فيظهِرون عكس ما يبطنون لتبدو الآراء خلافاً للقناعات، تتقرب الناس وتتودد متلاعبة بالكلمات والألفاظ متقنة فن النفاق، يبيعون ما لا يملكون من بضاعتهم الرخيصة من الشعارات الرنانة والمشاعر الكاذبة بشتى الطرق ضاربين عرض الحائط بكل القيم الإنسانية النبيلة، لإجادة إنفاق ما لا يمكن إنفاقه من سلع باخسة عبر المجاملات وتمجيد ما لا يستحق التمجيد واحترام من لا يستحق الاحترام والولاء المزيف والتهاني الكاذبة، والوقاحة المجمّلة المقنعة بالوجه المتغير المتناسب مع الوقت والظرف والموقف، وذلك لتحقيق بعض المصالح الخاصة على حساب المبادئ والأخلاق، لترجح كفة المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، فينعكس بذلك انطباعا ومظهرا سلوكيا سلبيا عن الانسان العربي وشخصيته، وليتراجع كذلك مستوى الذكاء الاجتماعي بجوهره القائم على القيم الإنسانية والمعايير الأخلاقية والسلوكيات الناتجة عنها والتي تقيم الفرد وتحدد مدى قبوله الاجتماعي وتسهل عليه تواصله بين أفراد مجتمعه والانخراط به، مما يساهم في تقوية المجتمعات وتماسكها وتضامن أفرادها، حينما تتغلب المصالح العامة على المصالح الشخصية الضيقة.

وفي غياب العدالة الاجتماعية يبرز التخلف في مجتمعاتنا ليؤثر على استقرارنا وترابطنا ويفكك نسيجنا الاجتماعي، لنعيش حالة من الاستلاب الثقافي، فيسود خطاب الكراهية ويمتد العنف الذي ينخر بكيان مجتمعاتنا وأبنائها! أصبحنا اليوم نكفر بالجوهر ونؤمن فقط بالمظاهر البراقة الخادعة، نرفض الصدق ونقيم الأمور ونحكم عليها وعلى المواقف وأصحابها بسطحية فارغة ومن خلال المظهر وليس الجوهر.

وعادة ما ينتهج المنافق أساليب المراءاة والكذب والسكوت عن الخطأ والتملق للوصول إلى الهدف، ودائما ما نلاحظ مجموعة من المنافقين المحيطين بمسؤول ما أو أي شخصية مرموقة، ممن يجيدون التلاعب بالكلمات التي تزخر بالمجاملات الكاذبة والتمجيد والتهنئة والترحيب والتبريك أو المديح والشكر أو الولاء وغيره من صور النفاق وتزييف الواقع، وكل ذلك لأجل تحقيق مآربهم الخاصة فقط، كما نلاحظ بأن الكثير من الناس قد يختلط عليه الأمر، فقد يظن بأن من الذكاء الاجتماعي ومهاراته، اتقان فن النفاق الاجتماعي واعتباره ضربا من ضروب الشطارة، ليصبح كل من يتبع الصدق في تعاملاته وعمله وافكاره وسلوكياته وكأنه يبتعد ويشذ عن القاعدة السائدة!

حتى اليوم لم تتوصل قدرتنا الهشة الضعيفة، إلى تشخيص الحالة وعلاجها أو حتى الوصول إلى درجة ما من الوقاية للأمراض الاجتماعية الفتاكة، وها هو النفاق يغزو حياتنا وعلاقاتنا وتعاملاتنا وأعمالنا وتصرفاتنا وحتى في نوايانا التي كثيرا ما تتجرد من إنسانيتنا، لينتشر بذلك الظلم والفساد والقهر نتيجة لذلك.

نعم يتفهم الجميع بأن من حق كل إنسان أن يحقق طموحاته وأحلامه التي طالما كان يصبو إليها، لكن ليس من حقه أبدا أن يصل إلى أهدافه بطرق غير مشروعة أو بالنفاق والكذب والمراوغة أو اقتناص فرص الغير وحرمانه منها أو الاستيلاء عليها وأخذها دون أي وجه حق.

فإلى متى سنظل نتجرع مرارة الألم والحزن والذهول لاصطدامنا بواقع مؤلم لما يظهر لنا من الحقائق التي طالما اختبأت خلف وجوه مزيفة كاذبة، وإلى متى كل تلك القلوب المليئة بالنفاق من حولنا!؟ ألا نحتاج جميعا لوقفة حقيقية جادة، والكثير الكثير من الصدق والنوايا الحسنة لمجابهة هذه الآفة ومحاربتها؟ دعونا نتحرى صالحنا العام، ولنجعل مصلحة مجتمعاتنا والانتماء إليها فوق المصالح الشخصية والمنافع الآنية المحدودة، وذلك لاجتثاث هذه الكارثة الاخلاقية الاجتماعية التي هبطت بمستوياتنا الإنسانية الى الحضيض.

- صحيفة رأي اليوم 

الأربعاء، 18 يناير 2017

المثقف العربي ومشاعر الاغتراب ..

يعيش الإنسان العربي العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية الخانقة التي تؤثر بشكل مباشر على جميع مناحي حياته الاجتماعية والثقافية، ولا يخفى أيضا ما نعيشه من حالة ركود وجمود فكري واضح كنتيجة حتمية لكل ما ذُكر، وما نتج عن ذلك من أزمة ثقافية جسيمة تمر بها مجتمعاتنا العربية ترافق ما نشاهده في هذا الوقت العصيب من تشتت وتفتت، ودمار وصراع ونزاعات. وفي كَنَف كل هذه الظروف القاهرة والاستثنائية (اقتصاديا وسياسيا، اجتماعيا وثقافيا) ما أحوجنا اليوم إلى تعزيز حالة الوعي والاستماع إلى أصوات وآراء الكثير من المبدعين والمفكرين والمثقفين العرب وأصحاب القلم والتأثير، في مختلف القضايا الكونية والأخلاقية والإنسانية، وطرح رؤيتهم الفكرية لخطوات إصلاحية قد تمهد الطريق نحو التغيير البنّاء والتخلص من كل ما يتسبب في تراجع مسيرتنا النهضوية.

وهنا لا بد أن ننوه بأنه من الخطأ أن نوجه اللوم إلى المثقفين والمفكرين والمبدعين، وأن نحملهم وحدهم مسؤولية النهوض الفكري والثقافي بالمجتمعات ودفعها على مواجهة التحديات المحيطة بها، فهي مسؤولية جماعية نتحملها جميعا كأفراد ومؤسسات، فلا بد وأنهم قد تأثروا أيضا بهذا الواقع الصعب في حياتنا ابتداء من حكومات دكتاتورية وثورات وصراعات، والكثير من الفتن والظروف الاجتماعية القاسية كالفقر والبطالة والجهل والتأخر العلمي والعادات والتقاليد البالية التي تحاصر المثقف العربي بتخلفها، وتشعره بالاغتراب عن محيطه وتدعوه للتقوقع والانعزال أو التفكير الجاد بالهجرة والابتعاد عن كل هذه الظروف السلبية حتى يستطيع الالتقاء بنفسه والانفراد بها بعيدا عن كل تلك الأزمات المتعددة بملامحها وجذورها، بما فيها من انعدام للحريات ورفض التعبير الحر ومقاومة التغيير، كل ذلك يدفع بمشاعر الغربة للتوغل عميقا في دواخل المثقف وروحه حين يلمس فرق التفكير والنظرة للأمور فيما بينه وبين مجتمعه الرافض للتغيير بكثير من الحجج الواهية كالعيب والحرام أو الممنوع، وليجدهم تارة يتحججون بالدين وبعض النصوص التي تحرم أو تحلل موقف ما، وتارة أخرى بالعادات والتقاليد البالية التي تُصنّف من خلالها النظرة للأمور والحكم عليها وعلى أي مرغوب أو مطلوب أو مرفوض! ليتسبب كل ذلك الضغط الذي يعيشه المثقف العربي بقطع العلاقة فيما بينه وبين مجتمعه بما يجعله يفقد حراكه تدريجياً وحضوره وتأثيره المطلوب، فهو بالتالي سيتجنب التعبير عن أفكاره ومفاهيمه التي تصطدم مع معتقدات مجتمعه السائدة مما يدفع به للتراجع بسبب ردود أفعالهم التي توهن من عزيمته وتتسبب له بالإحباط! فقد يُكَّفَر المثقف أو يُخَوَّن أو يتعرض للاضطهاد أو التنكيل، مما يدعوه للهجرة إن تمكن منها، تاركا خلفه كل الجهل والأفكار الهدامة والانغلاق وتقييد الحريات وقمع الأفكار وكل الانتكاسات.

فكيف إذاً للمثقف أن يؤدي دوره على أكمل وجه في ظل القمع السائد والاضطهاد، بما لا يؤثر على معنوياته ودوره ونشاطه وإنتاجه وإنجازاته ؟!

إلا أنه وبالرغم من ذلك يبقى للمثقف دوره الخاص في مواجهة كل ما ذكر من تحديات، فإن لم يكن المثقف والمفكر والمبدع سيعيد إحياء الأفكار الخلاقة لنسج مفاهيم جديدة تعيد ترتيب الأولويات والعلاقات مع الواقع الراهن، إن لم يكن هو فمن سيفعل؟ وإن لم يكن هو من سيساهم في دفع التغيير المطلوب وانتهاج المسارات الحديثة في التفكير وواقع السياسات لإعادة صياغة الواقع بكل الطرق المتاحة فمن سيكون؟ لذا لا بد للمثقف رغم كل الظروف من أداء دوره الحراكي والمجتمعي المنوط به لتجاوز كل حواجز العجز والعمل على إزالتها وذلك لخلق أفكار خلاقة تُشَخص الحالة الراهنة وتحللها بهدف إيجاد بعض الحلول التي قد تؤدي للإصلاح الاجتماعي او الاقتصادي او السياسي بما يشكل البداية لحراك المثقف الحقيقي وبداية الطريق.

نعم الطريق شائك وطويل، لكن علينا دائما أن نتمسك بالأمل وعلينا أن نتذكر بأن الأهداف كلما عَظُمَت، كلما طالت المسافة والطريق، لذا فإنه يقع على عاتق المثقف الكثير من المهام فهو الجندي الأول في معركة الثقافة والتوعية والتنوير، وهو ضمير عصرنا الحي إذا ما تمكن من البقاء صامداً نقياً، مُحافظاً على بوصلته الأخلاقية يحميها من كل شوائب الأيديولوجيا السياسية والدينية متمسكاً بإنسانيته وأخلاقه، متواضعاً متعاطفا يقف دائما إلى جانب كل مقموع ومقهور ومُضطَهد على هذه الأرض، وهنا عليه أن يعمل من خلال إنتاجه وحراكه الثقافي، قلمه وصوته، وكل ما يمكنه من الوصول إليه من وسائل ومواقع مؤثرة، وذلك للتنسيق فيما بين المعاني الإنسانية والفكرية التي يؤمن بها وبين الخطاب الحقوقي للإنسان، مدافعاً ما استطاع عن كل المبادئ الإنسانية بما فيها العدالة والحرية مبتعداً عن مصيدة التحزب، فلا ينحاز إلا للإنسانية والأخلاق السامية لإنصاف الفئات المهمشة المحرومة.

 وفي خضم هذه الظروف الحالية عليه أن يتجاوز عزلته وتلك الفجوة فيما بينه وبين مجتمعه ليقوم بواجبه المنوط به بما يساهم بالمعالجة الفكرية والثقافية لاجتياز العديد من الصعوبات والمشاكل، الطائفية والمذهبية والعنصرية، التعصب الفكري والثقافي، رفض التغيير والتطرف، الدعوة إلى روح المواطنة والانفتاح على الثقافات الأخرى وتقبل الآخر، بما ينتج عن ذلك من تغيير إيجابي حقيقي يتناسب مع متطلبات الثقافة ليتمكن المثقف من الإنتاج والإبداع والتحرك بكل حرية، دون أن تخنقه مشاعر الاغتراب في الوطن وتلك المنظومة الفكرية الصارمة المستبدة التي ما أنتجت لنا سوى حالة من الانفصام الشديد فيما بين المجتمعات وأبنائها من المثقفين .

- صحيفة رأي اليوم 

الجمعة، 13 يناير 2017

نظافة اليد والسلوك من نظافة الذمة والضمير

يعتبر الفساد من أشد المعوقات في طريق التطور وتنمية المجتمعات، فهو الظاهرة الاجتماعية والسياسية السلبية، القديمة الحديثة، المحلية والعالمية التي لا زالت تعيش بيننا وتفتك بنا وذلك لغياب حس الانتماء وتدهور الأخلاق، وإهمال الشفافية والرقابة فنشأت هذه الظاهرة وترعرعت لتغدو بكل قبحها ظاهرة قوية جريئة تفرض نفسها على مجتمعاتنا بصورة نسبية ومتفاوتة ليتم من خلالها انتهاك المبادئ والقانون وبيع الذمم والقيم والأخلاق والمتاجرة بهموم الناس، بما يضر وينعكس بشكل واضح جَلِيّ على حياتنا الاجتماعية ومصالحنا العامة.

الفساد هو عدو شديد الخصومة لاستقرار المجتمعات ونظام حياتها، فهو يتطفل عليها ليقتات على أرزاقها ويمنع رخائها حيث ينمو في قلب الأوطان لينتهك النزاهة والأمان ويعتدي على الحقوق، ويتهدد الجميع بآثاره المدمرة ونتائجه السلبية الخطيرة، فهو يستشري كالمرض في مصالح كثيرة حتى بات من القضايا التي تغلغلت في كل مناحي حياتنا المختلفة.

 هو موجود في كل الأمكنة والأزمنة والمجتمعات، حيث يخترقها عبر سلوكيات أصحابه غير المشروعة، للوصول إلى أهدافهم بكل الطرق والوسائل الملتوية الملتفة على الأنظمة والقوانين الموضوعة، وحيث الغاية تبرر الوسيلة لديهم، فنجدهم يغتصبون حقوق الغير ويحرمون الناس من الوصول إلى أهدافهم أو الحصول على فرصهم المُستحقة، ونسمع تارة عن أولئك الذين يسيئون استخدام مناصبهم ووظائفهم واستغلال سلطتهم ومواقعهم الوظيفية لأهداف ومصالح شخصية، أو نسمع عن استهتار البعض في أداء وظائفهم ومهامهم وواجباتهم أو تجاوزهم لحدودهم، أو من يستخدم المال العام  ويستغله في منافع خاصة او يحاول اختلاسه او الكسب منه بطرق غير قانونيه، وكم سمعنا عن أولئك الذين يسيئون لنفوذهم وسلطتهم الرسمية حيث يستعملونها بشكل وصورة تضر بمجتمعاتهم وصالحها العام ليتم استخدامها مقابل المال او تقديم بعض الخدمات بهدف الحصول على بعضٍ من الامتيازات الشخصية أو المآرب الخاصة!

وعادة ما نجد الفساد مترعرعاً طليقاً حيث يضعف أداء الأجهزة الحكومية أو الأنظمة القانونية وحيث تنعدم الشفافية والوضوح، ولكن من الصعب أن نجده يعيش بكل حرية في المجتمعات التي تتمتع بالديمقراطية والشفافية وتسودها العدالة ويحكمها القانون، حيث تُفَعَّل آليات المحاسبة ولا يعلو أحد على سلطة القانون ولا توجد أي استثناءات ولا مكان للواسطة أو المحسوبية أو الرشوة، ولا تراخي أبدا في تطبيق القانون، فالفساد شر يفتك بأمن المجتمعات وأمانها ويؤثر على تقدمها ويؤخر تنميتها ونهوضها، ويصيب مفاصلها الحيوية ومؤسساتها المختلفة بالعجز عن قيامها بأدوارها الهامة وواجباتها مما يُعيقها عن تقديم خدماتها المفروضة،  لذا على الدول والمجتمعات ان لا تتساهل أبدا مع كل فاسد يهدم وطنه بفساده وأن لا تغض الطرف عن كل مستفيد منه، ويجب الانتباه لمواقع الفساد أينما حلت في أي مكان سواء كان في القطاع العام أو الخاص، والعمل على تغيير هذا الواقع بكل الطرق القانونية المتاحة ومتابعة قضايا الفساد بكل عزيمة وحزم، وتعزيز الرقابة والمسائلة والمحاسبة القانونية على الجميع دون أي استثناء.

نحن لا نريد ان نتداول ونسمع مزيدا من الشعارات فقد أصابنا اليأس والملل منها! فَلِمَ لا تتضافر الجهود ضمن إرادة حقيقية بناءة للقضاء على الفساد ليعيش الإنسان معززاً مكرماً يتمتع بكل حقوقه الإنسانية فلا يسلبه الفساد شيئا منها، وحيث تطبق كل الاستراتيجيات اللازمة ضده وتُطبق القوانين الصارمة في حق كل مخالف وفاسد؟ يجب رفع مستوى الوعي بخطورة هذه الظاهرة الفتاكة، لذا ليتكاتف الجميع ويجتهد كل في موقعه ومكانه لمكافحة الفساد، بالقوانين ووسائل الإعلام وبأقلامنا وأصواتنا وكل ما لدينا من وسائل وقوة وطرُق للحد من انتشاره حتى لا يكون العقبة أمام تقدم الأوطان وبناء المجتمعات.

- صحيفة رأي اليوم

الأربعاء، 4 يناير 2017

هل من صياغة جديدة لهذا العالم المتطرف؟

نعيش اليوم في عالم يفتقد للإنسانية، فكل ما جمعه الانسان عبر الوقت من المعاني السامية للحق والمحبة والاخاء لترتقي به، نراها تغادر عالمنا شيئا فشيئا مضمحلة، ليحل مكانها التسلط والقهر وقوانين البلطجة وأحكامها حيث يأكل القوي الضعيف دون أي إحساس بالذنب! لم تعد القيم أو الأديان بكل ما فيها تشكل رادعا للإجرام والمجرمين فتمنعهم من ارتكاب جرائمهم، بل على العكس أصبحت القيم سلبية فتنعكس على تصرفاتنا، وتزايدت التفاسير الخاطئة لبعض النصوص الدينية لتشجع على قتل الآخر وعدم الاعتراف به كإنسان له حق كامل في الحياة بكل ما فيها، فاستُبحَيت الأرض والإنسان وانتهكت حقوقه وكرامته طوعا لرغبات وأهواء متوحشة لا هم لها سوى مصالحها، فاستُعملت كل الأسلحة التي لا ترحم بصورة تُذهل كل ضمير حي، لِيُباد العباد وتُسحق البلاد، وَهُدِرَت الدماء العربية على مسمع ومرأى من العالم أجمع حيث باتت رخيصة لا قيمة لها!

 نتابع الأحداث جميعا ونشاهدها على شاشات التلفاز عبر معارك غير متكافئة لا تغير من الواقع العربي المظلم ولا تقدم أو تؤخر بشيء ولا هدف لها سوى قتل الإنسان وتدمير أرضه وحضارته لصالح الغير، دون أي اكتراث لحجم المأساة والدمار وتشرد الشعوب أو قتلها، وها هو العالم المتحضر يتفرج غير آبه بما يحصل في البلاد العربية من ويلات وحروب وصراعات وقتل، وإراقة للدماء وإهانة للإنسان وإذلاله، حيث سُلبت شعوبنا أبسط حقوقها من الحرية والعيش الكريم، فماذا تخبئ لنا الأيام في عامنا الجديد هذا (2017) ؟ وهل من صياغة جديدة لهذا العالم المتطرف؟

نتغنى جميعا بحقوق الإنسان قولا دون الفعل، بينما نجد شعوب تقاد إلى التشرد والمخيمات واللجوء! فإلى متى سيبقى هذا العالم بوحشيته مفتقداً لإنسانيته مكرسا البغضاء والحقد والكراهية بين الشعوب التي لازالت تحلم بالانعتاق والحرية؟ وها هو التطرف الديني والفكر المتعصب لم يتركها وشأنها ليحول الكثير من أبنائها إلى مجموعات من القتلة والمجرمين، ويتحول القتل الجماعي كأداة للتنفيس والتعبير عن الكراهية للآخر المختلف، وها نحن نشاهد تنامي وازدياد ظواهر الإرهاب لتصفية الآخر وإعدامه في كل مكان على هذه الأرض ممن ينصبون أنفسهم أوصياء على الدين بصفتهم الأتقياء من المخلصين، حيث يقررون بفكرهم المشوه كل من يستحق الحياة وكل من يستحق الموت، ليقوموا بدورهم بتصفية كل مختلف باعتباره كافر أو مرتد ليستحق الموت! ومن منطلق حرصهم على الدين وتطبيق الشريعة بحسب ادعاءاتهم، فهم يقررون إفراغ أحاسيسهم ومشاعرهم الإنسانية ليتحولوا لمسوخ بشرية لا هم لها سوى القتل والتخريب حيث يتم تبرير سقوطهم الإنساني بعد ذلك بتبريرات وآيديولوجيات دينية تخفي حقيقتهم العدوانية وكرههم للحياة والبشر فيرتكبون كل المعاصي ويتجاوزون إنسانيتهم وآدميتهم وأخلاقهم بالقتل وكل ما أمكنهم من الجرائم! والحقيقة تقول بأنه لا يمكن لأي أيديولوجيا دينية أن تخفي عدوانيتهم ووحشيتهم المطلقة مهما تسترت بنصوص دينية، والحقيقة أيضا تقول بأن كل من يؤيدهم ويتشفى ويفرح لوقوع الضحايا والقتلى في أي مكان في العالم ما هو إلا مريض نفسي ينشر وباء التطرف والكراهية والوحشية والإرهاب، وعلى العالم أجمع أن يتكاتف ليعزله هو وأمثاله اما في مصحات نفسية حتى تتم معالجتهم وإعادة تأهيلهم ليتمكنوا من التخلص من العدائية والإجرام ومن ثم العودة للانخراط مجددا في الحياة كبشر أسوياء أو تتم محاكمتهم وتنفذ فيهم أحكام عادلة رادعة.

علينا أن نلفت إلى أن كل إرهابي بفكره الخارج عن الدين، هو خارج عن كل ما جاءت به الأديان السماوية من السماحة والإخاء وحقن الدماء وحب الخير، حيث يسعى في الأرض فساداً وقتلاً وتنكيلا. قال تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» والنفس هنا تعني كل الأنفس البشرية المسلمة وغيرها، أخيرا إن ما يجري على الأرض هو مؤشر خطير لمستقبل قاتم ما لم تتم معالجته بروح من المنطق والعدالة وتجنب خطاب الكراهية والتشفي والدعوة الى الانتقام، على العالم أن يتخلى عن محاولاته المادية في تحقيق مصالحه الاقتصادية فحسب، فهي ليست أشد أهمية أبدا من الحفاظ على أرواح البشر وأمنها وأمانها واستقرارها وتحقيق العدالة الاجتماعية والالتزام بالديمقراطية، وعلينا جميعا نبذ أي مجموعات طائفية متطرفة متعصبة تحقد على الآخر المختلف فكرا وعقيدة وعرقا وانتماء.

- صحيفة رأي اليوم 

صباح بشير: المرأة العربية بين الفرص والتقاليد

  ما زالت المرأة العربية تخوض كفاحاً مستمراً لنيل حقوقها الاجتماعية والإنسانية، ومساواتها مع الرجل في جميع المجالات، فما الذي تمّخض عنه كفاح...