يعيش الإنسان العربي العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية الخانقة التي تؤثر بشكل مباشر على جميع مناحي حياته الاجتماعية والثقافية، ولا يخفى أيضا ما نعيشه من حالة ركود وجمود فكري واضح كنتيجة حتمية لكل ما ذُكر، وما نتج عن ذلك من أزمة ثقافية جسيمة تمر بها مجتمعاتنا العربية ترافق ما نشاهده في هذا الوقت العصيب من تشتت وتفتت، ودمار وصراع ونزاعات. وفي كَنَف كل هذه الظروف القاهرة والاستثنائية (اقتصاديا وسياسيا، اجتماعيا وثقافيا) ما أحوجنا اليوم إلى تعزيز حالة الوعي والاستماع إلى أصوات وآراء الكثير من المبدعين والمفكرين والمثقفين العرب وأصحاب القلم والتأثير، في مختلف القضايا الكونية والأخلاقية والإنسانية، وطرح رؤيتهم الفكرية لخطوات إصلاحية قد تمهد الطريق نحو التغيير البنّاء والتخلص من كل ما يتسبب في تراجع مسيرتنا النهضوية.
وهنا لا بد أن ننوه بأنه من الخطأ أن نوجه اللوم إلى المثقفين والمفكرين والمبدعين، وأن نحملهم وحدهم مسؤولية النهوض الفكري والثقافي بالمجتمعات ودفعها على مواجهة التحديات المحيطة بها، فهي مسؤولية جماعية نتحملها جميعا كأفراد ومؤسسات، فلا بد وأنهم قد تأثروا أيضا بهذا الواقع الصعب في حياتنا ابتداء من حكومات دكتاتورية وثورات وصراعات، والكثير من الفتن والظروف الاجتماعية القاسية كالفقر والبطالة والجهل والتأخر العلمي والعادات والتقاليد البالية التي تحاصر المثقف العربي بتخلفها، وتشعره بالاغتراب عن محيطه وتدعوه للتقوقع والانعزال أو التفكير الجاد بالهجرة والابتعاد عن كل هذه الظروف السلبية حتى يستطيع الالتقاء بنفسه والانفراد بها بعيدا عن كل تلك الأزمات المتعددة بملامحها وجذورها، بما فيها من انعدام للحريات ورفض التعبير الحر ومقاومة التغيير، كل ذلك يدفع بمشاعر الغربة للتوغل عميقا في دواخل المثقف وروحه حين يلمس فرق التفكير والنظرة للأمور فيما بينه وبين مجتمعه الرافض للتغيير بكثير من الحجج الواهية كالعيب والحرام أو الممنوع، وليجدهم تارة يتحججون بالدين وبعض النصوص التي تحرم أو تحلل موقف ما، وتارة أخرى بالعادات والتقاليد البالية التي تُصنّف من خلالها النظرة للأمور والحكم عليها وعلى أي مرغوب أو مطلوب أو مرفوض! ليتسبب كل ذلك الضغط الذي يعيشه المثقف العربي بقطع العلاقة فيما بينه وبين مجتمعه بما يجعله يفقد حراكه تدريجياً وحضوره وتأثيره المطلوب، فهو بالتالي سيتجنب التعبير عن أفكاره ومفاهيمه التي تصطدم مع معتقدات مجتمعه السائدة مما يدفع به للتراجع بسبب ردود أفعالهم التي توهن من عزيمته وتتسبب له بالإحباط! فقد يُكَّفَر المثقف أو يُخَوَّن أو يتعرض للاضطهاد أو التنكيل، مما يدعوه للهجرة إن تمكن منها، تاركا خلفه كل الجهل والأفكار الهدامة والانغلاق وتقييد الحريات وقمع الأفكار وكل الانتكاسات.
فكيف إذاً للمثقف أن يؤدي دوره على أكمل وجه في ظل القمع السائد والاضطهاد، بما لا يؤثر على معنوياته ودوره ونشاطه وإنتاجه وإنجازاته ؟!
إلا أنه وبالرغم من ذلك يبقى للمثقف دوره الخاص في مواجهة كل ما ذكر من تحديات، فإن لم يكن المثقف والمفكر والمبدع سيعيد إحياء الأفكار الخلاقة لنسج مفاهيم جديدة تعيد ترتيب الأولويات والعلاقات مع الواقع الراهن، إن لم يكن هو فمن سيفعل؟ وإن لم يكن هو من سيساهم في دفع التغيير المطلوب وانتهاج المسارات الحديثة في التفكير وواقع السياسات لإعادة صياغة الواقع بكل الطرق المتاحة فمن سيكون؟ لذا لا بد للمثقف رغم كل الظروف من أداء دوره الحراكي والمجتمعي المنوط به لتجاوز كل حواجز العجز والعمل على إزالتها وذلك لخلق أفكار خلاقة تُشَخص الحالة الراهنة وتحللها بهدف إيجاد بعض الحلول التي قد تؤدي للإصلاح الاجتماعي او الاقتصادي او السياسي بما يشكل البداية لحراك المثقف الحقيقي وبداية الطريق.
نعم الطريق شائك وطويل، لكن علينا دائما أن نتمسك بالأمل وعلينا أن نتذكر بأن الأهداف كلما عَظُمَت، كلما طالت المسافة والطريق، لذا فإنه يقع على عاتق المثقف الكثير من المهام فهو الجندي الأول في معركة الثقافة والتوعية والتنوير، وهو ضمير عصرنا الحي إذا ما تمكن من البقاء صامداً نقياً، مُحافظاً على بوصلته الأخلاقية يحميها من كل شوائب الأيديولوجيا السياسية والدينية متمسكاً بإنسانيته وأخلاقه، متواضعاً متعاطفا يقف دائما إلى جانب كل مقموع ومقهور ومُضطَهد على هذه الأرض، وهنا عليه أن يعمل من خلال إنتاجه وحراكه الثقافي، قلمه وصوته، وكل ما يمكنه من الوصول إليه من وسائل ومواقع مؤثرة، وذلك للتنسيق فيما بين المعاني الإنسانية والفكرية التي يؤمن بها وبين الخطاب الحقوقي للإنسان، مدافعاً ما استطاع عن كل المبادئ الإنسانية بما فيها العدالة والحرية مبتعداً عن مصيدة التحزب، فلا ينحاز إلا للإنسانية والأخلاق السامية لإنصاف الفئات المهمشة المحرومة.
وفي خضم هذه الظروف الحالية عليه أن يتجاوز عزلته وتلك الفجوة فيما بينه وبين مجتمعه ليقوم بواجبه المنوط به بما يساهم بالمعالجة الفكرية والثقافية لاجتياز العديد من الصعوبات والمشاكل، الطائفية والمذهبية والعنصرية، التعصب الفكري والثقافي، رفض التغيير والتطرف، الدعوة إلى روح المواطنة والانفتاح على الثقافات الأخرى وتقبل الآخر، بما ينتج عن ذلك من تغيير إيجابي حقيقي يتناسب مع متطلبات الثقافة ليتمكن المثقف من الإنتاج والإبداع والتحرك بكل حرية، دون أن تخنقه مشاعر الاغتراب في الوطن وتلك المنظومة الفكرية الصارمة المستبدة التي ما أنتجت لنا سوى حالة من الانفصام الشديد فيما بين المجتمعات وأبنائها من المثقفين .
- صحيفة رأي اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق