للأخلاق والقيم السامية أهمية كبيرة مؤثرة على سلوك الانسان وتصرفاته، وهي تساعد المجتمعات على تكوين حضارتها، المُلاحظ بوضوح كيف تبدو تلك الهوة الثقافية العملاقة التي تفصل مجتمعاتنا الاسلامية عن المجتمعات الغربية المتفوقة في شتى المجالات الانسانية والعلمية، الاقتصادية والصناعية وغيرها، وكيف ينعكس ذلك على حياة الناس، فالفجوة بين عناصر الثقافتين واسعة، واختلال التوازن في سرعة النمو بينهما متفاوت بشكل كبير، ليس هذا فحسب، فمن المؤسف حقاً أن الفوارق الشاسعة بين الثقافتين إنما تكمن وتتجسد ملياً في التفوق الأخلاقي، وهذه الحقيقة لطالما تم تجاهلها في عالمنا العربي والإسلامي، بل وتم تعميم صورة وهمية مناقضة، مفادها أن العالم الغربي متفوق علميا لكنه مجتمع منحل أخلاقيا !
الثقافة الغربية تؤمن بالمسؤولية الإنسانية وبالإنسان كفرد لديه كل الامكانات الفردية والطاقات الفكرية الخلاّقة المستقلة، وذلك بالنقيض لثقافتنا الشرقية التي تؤكد على التبعية ومسؤولية الفرد تجاه المجموعة، وإكراهه على تنفيذ سياسة القطيع، دون الاهتمام بتعليمه وتهذيبه أو إكسابه قيم المواطنة الحقيقية والانتماء، فمن رَحِم شرقنا الغارق في الجهل يولد التخاذل والتراجع، حيث تشجع ثقافتنا على السيطرة والتسلط على الانسان وعلى حالته الذهنية والروحية، كذلك تسمح بالتدخل في أدق تفاصيل حياته، وتنبذ الاختلاف وتقدس النصوص والشخوص ! لا يهم أبدا ما يفعله الناس في الخفاء طالما أنهم يَظهرون بمظهر القدسية والفضيلة، ولا يهم أن كان الانسان عنصريا أو فاسدا، المهم هو تلك الصورة اللامعة التي يحسن تقديمها للمجتمع والتي تلتف بعباءة الدين، كل ذلك أدى الى التلوث الاخلاقي وانتشار الفوضى، والذعر من العقول النقدية ورفضها، فبات الصدق عملة نادرة، وحُرم على الناس كل ما ينفعهم ويرتقي بهم، حُرّمت الموسيقى ومعها الكثير من الفنون الإنسانية الجميلة التي تؤثر على المشاعر الانسانية فترقق وتهذب الأحاسيس، حتى قَسَت القلوب وانتشرت الكراهية كنتيجة طبيعية للتعصب والكبت في التربية ، فأصبح تكفير الآخر المختلف فرضاً مقدسًا في ظل معتقدات تكرس النزعة على إبقاء الموروثات دون مراجعتها أو إعادة النظر في جدواها، مما أدى الى الانغلاق وسلسلة من التراجعات التي لا زالت تلقي بظلالها علينا حتى اليوم .
أما ثقافتهم التي واصلت تطورها منذ العصور الوسطى حتى اليوم، فتشير الى احترام الانسان وحقوقه بما تتضمن من أنماط سلوكية ورقي في التعامل، ورؤية ونسق فلسفي وتعدد فكري، هي ثورة من القيم التي تقدس الإنسان والحياة، تواصل السعي نحو تقدمها لرفع مستوى الحياة، هي ثقافة ناضجة مرت بتجارب التنوير والتعدد كنتيجة للهجرة البشرية إليها، تستند الى المنطق حيث اجتازت كل المحن والحروب والموروثات، وواصلت البحث والاكتشاف وإرساء العلم والحداثة، كما حَجّمت دور الكنيسة وأكدت على طابعها العلماني الديمقراطي، وتبنت مبدأ الحوار، فارتقت بحياة الفرد وجعلته أكثر نبلاً، رفعةً وإنسانية، من خلال سيادة القانون وسياساتها العامة تجاه شعوبها، واحترام الانسان لأخيه الانسان وهذا ما ظهر جلياً في تعاملهم مع مختلف الثقافات والألوان المهاجرة اليهم هربا من الحروب والظلم في أوطانهم، فتم قبولهم ومنحهم الأمان وحق العيش الكريم .
في الحقيقة هناك اختلاف كبير لما غُرٍس في أذهاننا وتم زرعه في عقولنا عبر الاعلام والمنابر، فالأخلاق الغربية الفاسدة التي يتحدثون عنها بازدراء، إنما تكمن في نظرة المجتمعات الى المرأة بصورة عامة، وذلك ما يتم التعبير عنه في ثقافتنا بكلمة “الشرف” وعبر الممارسات القمعية ضد المرأة، بينما في حقيقة الأمر يحمل مصطلح “الشرف” معنى مغاير تماما أدركته الثقافة الغربية وعملت به، فالشرف يكمن في الصدق بين الناس والأمانة والوفاء والعدل، وفي الكرامة والنزاهة والاحسان، الإخلاص في العمل، والمروءة والشجاعة وحب الوطن، وغيرها من القيم الانسانية النبيلة التي تكرس معنى الشرف بحق، ولا يتجسد الشرف لديهم بالأنثى دون النظر لبقية المفاهيم ، فهم يعالجون تلك القضايا بتعقل عبر النقاش الحر وبدرجة عالية من المنطق والصراحة دون فرض الرأي أو الحواجز والعقبات. كم أتألم عندما أشاهد تدهور الاخلاق في مجتمعاتنا، فنحن ندعي الأخلاق ولا نمارسها، بينما هم يمارسونها قولا وعملا.. الآن ، وكنتيجة طبيعية لخروج النسق الاجتماعي عن مساره، نحتاج الى حراك إصلاحي يستشعر الناس قيمتهم الإنسانية من خلاله، وذلك للتحديث والتغيير وإعادة بناء مجتمعات أخلاقية متماسكة مستقرة، بعيدة عن التعسف والتطرف والفتاوى المضللة الهدامة، حينها فقط سنتمكن من استعادة منظومة القيم الأخلاقية التي غادرتنا منذ زمن ….
رأي اليوم January 2, 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق