في عالم صاخب تكثر فيه الأعباء وتتسارع وتيرة الحياة وتشتد وطأتها، نجد كآبة المنظر تلقي على وجوه الناس ظلالها، يزداد الأمر تعقيدا حين لا نجد الوقت الكافي لأنفسنا، وبمرور الوقت نشعر بنفاذ طاقتنا الداخلية، تلك التي تزودنا بالتحمل والصبر. عن نفسي لا أحب الأجواء الصاخبة ولا أملك القوة لتحملها، لذا أهرب منها إلى الهدوء في عالمي الخاص، حيث أستمع الى الموسيقى وأدوِن كل فكرة أو صورة أعايشها عبر حاسوبي الصغير، هكذا أجدني أهرب الى الكتابة من كل شيء، ألوذ بنفسي إليها وأتوحد معها، فأجد بها أناةً وراحة، ومفتاح الخروج من عالم يضجُ بالصخب.
تراودني الرغبة في الكتابة منذ أيام، إلا أنني عانيت من عسر غريب في جمع الأفكار التي بدت وكأنها تائهة مبعثرة ! كما وجدت صعوبة في إيجاد الوقت الكافي لذلك، قلت لنفسي: علي أن لا أجعل من ذلك حجة ومدعاة للكسل، فالكتابة هي مرآتي الخاصة التي أنظر بها دائما إلى نفسي، وهي تلك المساحة التي أعتز بها فتشكل علاقتي التي أحب بالكلمات والأفكار. وما أن أنهيت كتابة هذه السطور حتى شعرت بالراحة، فقررت أن لا أبخس الكتابة حقها وأن لا أبخل عليها بالوقت، رغم ضيقه وكثرة الانشغالات.
الكتابة هي الإنسان بكل ما يحمل من أبعاد فكرية، وهي تمثل صلته الاجتماعية ببيئته والمحيط، وكل كلمة تُكتب تُكَوِّن علاقة دافئة بينها وبين كاتبها، هكذا أشعر بها، إذ كلما أوشكتُ على الانتهاء منها أجدني أعود إليها مجددا فأتوحد معها لأغيب في عالم من نبضٍ آخر، لا يراه أحد سواي، فلا أحب الخروج من نفسي أبدا، وحين أنتقل من سطر لآخر، تتراءى الأفكار أمامي فأطرب لها كأغنية شجية، حينها تسيطر علي الرغبة في التعبير لأكتب عن قناعة ورأي، أو من فرح بلغ حدود البكاء، أو من حزن تسلق جدار القلب، أو من دمعة نَجَحتُ في إخفائها هناك بعيدا عن أعين الناس.
قديما كان الصائغ الحرفي ينفخ في النار ثم يضع قطعة الذهب الخام في الفرن، يقوم بتبريدها وتسخينها عدة مرات، وذلك للحفاظ على ليونتها أثناء معالجتها، لتتحول بعد ذلك إلى صفائح ذهبيه، ثم إلى حلي وقطع أنيقة يتم تصميمها بالشكل المطلوب، معبرا بذلك الصائغ عن حرفيةٍ ومهارة، تلك التي صنعت لنا قطعة فنية جميلة نتزين بها. وهنا نجد تشابها كبيرا من حيث الفكرة والانتاج بين عملية الصياغة وعملية الكتابة، فبعض الكلمات البسيطة أحيانا تتطلب منا القوة حين نقرر كتابتها، فأن تكتب يعني أن تتقدم في الكتابة أو تعود أدراجك لتبدأ صفحة بيضاء جديدة، أنت هنا في طريق ممتد متشعب، تصوغ الكلمة لتصل بها الى الجوهر والمعنى، معبرا بذلك عن ذاتك وأَناك، تلك الأنا التي تعبر من خلالها عن وعيك في صورته الحاضرة، فتبلور شغفك وتطلعاتك مع كل ما تختزنه من مهاراتٍ وحسٍ وشعور، مقتنعا لتبلغ الهدف وتلك الرغبة في معانقة السماء حين تسكب الحروف عطرها بين سطورك فتحكي وتبوح، ويشهد على ذلك وقع كلماتك ودَوِيّها بعد قراءَتها ومرورها على الآخرين.
حين أشاهد صور الكُتّاب على أغلفة الكتب، أشعر بتلك النظرات الشاردة الساهمة ! وأغبطهم لأنهم يتحررون بعد الكتابة مما علق بأرواحهم من استياء وكدر، فالكتابة هي حمائم السلام وذلك التآلف مع النفس والرضى والانشراح، وتلك السكينة التي نحتاجها حين تأوي إليها أرواحنا المتعبة، فنفر اليها من كل عناء ونَصَب.
أن تكتب يعني أن تنبعث باتجاه نفسك فتنساب أفكارك على حواف القلب من كل مكان، وقد تشتم رائحة الذكريات هناك من جيب خفيّ في الذاكرة، وقد تشرق غزالات الحنين لترتوي من عمق الفكرة، هكذا حتى يتسع النص المشغوف على وقع الكلمات برونقه وجماله فيحتضن كل الصور وكل المعاني والآراء، وتنطبع بذلك روح الكاتب لتغدو هوية تُعرِّف عنه.
نحن لا نعلم ما يبذله الكُتّاب من أرواحهم وكيانهم أثناء عزلة الكتابة، فهم يبحثون دائما عن جديد مفقود، أو عن زاوية من الحياة لم تُقرع أجراسها بعد، أو أفكار غير مستهلكة لامعة مميزة، ربما يتحررون من خيباتهم حين يبوحون، ولربما يتطهرون حين تتمرد دموعهم فتتسلل في وَجَمٍ وصمت.
January 18, 2019 / صحيفة رأي اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق