يزخر التاريخ بالعصور التي تميزت بالصراع بين التقليد والحداثة، بين الخرافة والعلم ، بين العقيدة والعقلانية، عجلة التاريخ مستمرة وهي تعني كامل الحياة دون استثناء، الماضي الحاضر والمستقبل، لذا يدرس المؤرخون الماضي كتجارب للشعوب يجب النظر إليها والتمعن فيها، وذلك للاستفادة منها ومن خلاصةِ ما قدمته الأمم من نشاطات عبر الزمن في مجالاتِ المعرفةِ الإنسانية المختلفة.
قام مشروع الحداثة الأوروبية متسارعا بعد ثورات فكرية علمية وصناعية في أواخر القرن الخامس عشر، بينما بدأ مشروع الحداثة العربي بطيئا بعد منتصف القرن التاسع عشر، لم يكن من الممكن لروّاد النهضة الفكرية في أوروبا في ذلك الحين أن يفكوا قيود الجهل ما لم يتم ضبط دور الكنيسة آنذاك والتضييق على سلطتها لتقتصر على أداء وظائف محددة، أدى ذلك التمرّد ضد القيم الكَنسِيّة للفصل بين العقيدة والجانب الحياتي الدنيوي، فسادت قيم الحداثة والتغيير وأصبح الغرب بعد ذلك يرفل تحت راية العقل والعلم والعلمنة، مما افرز واقعا حضاريا مدنيا جديدا، مَكّن الجهود التنويرية من إقامة المنهج العقلي والمضي قدما بالعلم نحو الصدارة بقيادة الاخلاق والقيم الإنسانية.
مما سبق، فالسياق العام لمفهوم الحداثة هو تغيير القديم، تجديده وتطويره لواقع الحياة الاجتماعية والثقافية باستخدام العقل والمنطق والعلم، مؤدياً بذلك إلى انهيار المعايير والقيم التقليدية القديمة والوصول إلى ممارسة اجتماعية وإبداع منطق جديد مبتكر في شتى المجالات، ليسهم ذلك التغيير بالتقدم على مختلف مناحي الحياة الانسانية وما تشهده من تحولات .
راهن الكثير من المثقفين العرب على الفكر الحداثي في اكتناف الفكر التقليدي والنهوض بالمجتمعات العربية ثقافيا، وذلك لفتح الآفاق ومواكبة الحضارة العصرية، لكن مشروع الحداثة العربي ولد خداجا منذ انبثاقه، فمثقفينا ومفكرينا لم يتمكنوا من سد الفجوات واستيفاء الشروط الاجتماعية الثقافية المطلوبة لملائمته بسبب البنية الفكرية لمجتمعاتنا، والتي تعيق الولوج في الحداثة الغربية انطلاقا من قدسية النصوص وتعدد القراءات.
نحن أمة تحمل تاريخا عريقا صار حملا ثقيلا عليها ! نكوصنا إلى ماضينا كردة فعل جعلنا لا نتوقف عن تمجيد وتعظيم تراثنا ومجدنا والإعجاب به، لم ندرك بعد أن ذلك لم ينجح بشحذ الطاقات للوقوف أمام التحديات الجسام التي نواجهها ، وأنه من غير المجدي البكاء والتحسر على الماضي التليد, أدى ذلك الى الجمود وتقبل الواقع ورفض التغيير لدرجة الغفلة عن الحاضر وتجاهل المستقبل !
وللأمانة فقد كان للجهود والدعوة إلى الحداثة تأثيرا كبيرا في قطاعات عديدة في عالمنا العربي، إلا أن هذه الجهود لم تؤتِ أُكلها بعد، فلا يزال الباحثون رغم إدراكهم بالواقع بكل متطلباته واشكالياته، يبحثون في طور الإطار القيمي الذي يشكل الهوية الجماعية، وعما يمكن تطبيقه للنأي بالمجتمع قدر الامكان عن مظاهر التخلف دون المَسِّ بالموروث أو التصادم مع هيبة النصوص، وبذلك نشأت المجتمعات التي تحمل أسسا فكرية عقائدية، متماهية متقمصة للحداثة دون مواكبتها. من هنا وبشكل عملي فإن أكثر مستويات الحداثة لدينا بطئاً هي الحداثة الفكرية ! فهل يعرف الانسان العربي ما ينتظره من تحديات في ظل ما ينتابنا من عجز في القدرات والإمكانات والانتاج والمعرفة ؟ قضايا الإصلاح السياسي واستكمال مسيرة التحول الديمقراطي، حقوق الإنسان ومواجهة التطرف والعنف، الفقر وسوء توزيع الدخل، البطالة وضعف الأداء الاقتصادي وسوء توجهات التنمية, ضعف المؤسسات التعليمية والتدريبية، الفساد والانقسامات الطائفية والقبلية وغيرها من القضايا والتحديات ذات الأبعاد والتأثيرات المباشرة على مسيرة التكامل، الأمر الذي يستوجب إصلاحات عميقة على كافة الأصعدة.
على أي حال العقل المكبَّل لا يخلـِّف إنسانًا حُرًّا مُبدِعًا، فهل من محرر للعقول المكبلة بأَغلالٍ من الماضي وسلطة العقل الجمعي؟ وكيف السبيل الى مجتمع أكثر إنسانية، أكثر رحابة وفكراً؟ وأخيرا.. هل تولد الحداثة وسط غياب إرادة سياسية حقيقية ؟! .
صحيفة رأي اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق