يمثل الأدب مصدراً للهوية ويسهم في بناء المجتمعات، يستمد أهميته من وصفه للواقع بكل صوره وأشكاله، فهو يقدم لنا النماذج على صعيد الفرد والجماعة، وذلك في إطار حالة إنسانية أو حدث ما، كما يساهم في الارتقاء بمفاهيم المجتمع، كذلك ويلقي الضوء على تجارب المبدعين، تلك التي تثري التجارب الانسانية وتضيف إليها، وعندما نقرأ نصا أدبيا فإننا نقرأ تجربة حية كُتبت برؤية كاتبها وعيونه، لتعبّر عن مشاعره وأفكاره، هكذا تتاح لنا فرصة المعرفة والتعاطف مع من خاضوا تجارب الحياة المختلفة، فنتعلم الكثير منهم عن ظروفٍ وأحداث لم نعرفها سابقا، خاصة لو كانت هذه التجارب تتحدث عن الفقد أو موت أحد الأحبة.
مؤخراً كنت قد قرأت كتاب “رسولة العطر” للسيدة الأديبة أمل المشايخ، والذي أهدته الى روح زوجها المرحوم الشاعر عاطف الفراية، فكتبت تقول: “إلى عاطف حين ظلَّ حاضرًا رغمَ أنفِ الغياب”.
“رسولة العطر” هو مجموعة من النصوص في التأمّل، الحب والفقد والألم، كُتبت بلغة شفّافة وأسلوب رقيق، إذ تطل علينا أمل لتصف أمور قلبها وشؤون روحها باختزال شديد، لقد شعرت بأني وقعت على تحفة أدبية مدهشة بين طيات الكتاب، تقطر حبا وعشقا.
كتبت أمل برؤيتها الخاصة، فظَهَرت في قالبٍ يحمل جزءًا من روحها أحيانا، أو يحمل فلسفتها في تجاوز الألم أحيانا أخرى، هكذا استرسَلَت ومَضَت في عرضِ الفكرة، محاولةً قدر الإمكان التركيز على ذات السياق، مبتعدةً عن الفذلكة الكلامية، معتمدةً أساليب هادئة يسيرة، لتقبض على اللحظة الجمالية وتعبر عن ما بَدَأَت به قائلة :
كلما ذكروا الغيابَ تحسست قلبي
قلبي الذي كلَّما هبَّتْ ريحٌ صوبَ الجنوب
أرسلَ سلامه مع العابرين
العابرين الذين على وقعِ أقدامِهم
يعلو وجيبُ قلبي.
أَتْقَنَ الغِياب فأتقنت هي الحنين، هو العشق إذن، حالة خاصة نعيشها مرة كلحظة الميلاد، حيث المتناقضات، الألفة والانسجام، الحزن والفرح، الموت والحياة، وأمام تلك الحالة الشعورية وبعد كل عنوان تشدنا أمل بحرفية التصوير والوصف، فتمزج بين الماضي والحاضر وتجمع بين الأمكنة والأغنيات والأحلام، الأسئلة، المواقف وكل التفاصيل، وتعبر عن ما يختلجها من العواطف والأحاسيس، فتروي لنا الحكاية وقصص الغائبين، بنَسَق بديع ودروس في الاحتواء والوفاء، وشفافية تسمو بنا الى السماء..
أردْنا أنْ نرسمَ قلبًا وحرفين
كما يفعلُ عاشقان صغيران
يتجرَعان كأسَ الحبِّ للمرَّةِ الأولى
على السِّدرةِ ثمَّةَ صِغارٌ يطوفون بالعاشقين
كانوا يعابثون الفينيقَ
ويصفِّقُ بأجنحتِه
ما زلْنا نحاولُ أنْ نرسمَ قلبًا وحرفين
عادَ الفينيقُ إلى الأرضِ وحيدًا
يا بؤسَها الأحلام !
تكمن الجاذبية عند قراءة هذه النصوص في الأحاسيس التي يثيرها هذا البوح الإنساني العذب والذي يعبئ عند القارئ ملكات فكرية ونزعات عاطفية، وكأن أمل تبث شكواها إلينا لتخفف بذلك لوعة الفراق، لعل ذلك يؤنسها ويداوي الجراح.
تتألم أمل بصمت، تحمل حزنها والبهجة في آن، تجسد الوفاء وتلك الصورة الحقيقية لحبها وصفا ومحاكاة، فحين يغيب الحلم وَيُغيِّبُ الموت أحد الأحبة، تبقى رؤى المبدع هي من تبلسم ذلك الضّعف الإنسانيّ وتداوي الجراح. يحضرني الآن ما كتبه شاعرنا الكبير محمود درويش : الموت لا يوجع الموتى .. الموت يوجع الأحياء !
أما أمل فقد كتبت تقول:
أحمر هذا الدم
ووردي هذا الحب
فهلا أتينا بلون سواء بينهما
لو أن الأبيض يأتي لانجلى شيء من هذا الغبار
سيكون ثمة لون ثالث
ربما بلون الشفق
ربما بلون الأرجوان
لكنه ليس دما
لكنه ليس كفنا
كم يؤلمنا مهرجان هذي الألوان!
صحيفة رأي اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق