بانتسابنا واتصالنا بقوة مع أمر ما والمحافظة على الإرتباط به وجدانيا وفكريا وواقعيا ، سواء كان العمل أو العائلة أو الوطن أو غيره ، فإننا نسمي ذلك بالإنتماء ، أما المواطنة فهي علاقة الفرد بالدولة التي ينتمي إليها في ظل قانونها وتشريعاتها ومساحة الحرية المعطاة له ، بما له أو عليه من حقوق وواجبات وبمنطلق ما يستشعره الفرد نحو وطنه من الولاء والإعتزاز بالهوية ومراعاة الصالح العام ، على أن لا يتخلى عنه الوطن وقت الأزمات والمحن .
المتابع اليوم للأحداث وأثرها على مفهوم الإنتماء والمواطنة علينا يلاحظ تأثر الإنتماء بالظروف السياسية والإجتماعية الحالية ، ويلاحظ أيضا ذلك الإنتماء المغلف بوعي زائف نتيجة تشويه الواقع وتضليل الحقيقة في عقول الناس ، لذا أصبحت رؤيتهم للكثير من الأمور والمواقف لا تعبر تعبيراً حقيقياً عن واقعهم الفعلي ، فينتج عن ذلك الإنتماء الزائف المشابه لسلوك القطيع الذي يتمثل بتبعية الفرد التامة وحرصه على مصلحة الفئة التي ينتمي إليها دون غيرها حتى لو تعارض ذلك مع الصالح العام اعتقاداً منه بأنه بكامل الوعي والإدراك والإنتماء للوطن ، إلا إنه في حقيقة الأمر لا ينتمي ولا يدرك ولا يخدم إلا فئة واحدة دون غيرها ، مُترتبا على ذلك العديد من النتائج السلبية كالتعصب الأعمى والتطرف والعنف والصراع مما يؤدي إلى تفكك المجتمع وهدمه ، وذلك لتعصب كل فئة لمصالحها ووجهات نظرها على حساب بقية الفئات .
في ظل ما نمر به من أزمات متتالية وانقسامات وتعثر وشعور بالفشل من عدم قدرتنا حتى الآن على بناء مجتمعات مدنية نحقق فيها نهضة تبني لنا دول حديثة ، فقد بات من الضروري أن نتأمل جيدا ونعيد قراءة التاريخ والواقع ونستخلص النتائج والعبر ، وحين ننظر إلى كل أسباب الفشل فإننا سنكتشف بشكل واضح وجلي بأن سيكولوجيا الحشد هي سببا من الأسباب ، وفي هذه الحالات يبتعد الناس تماما عن مفهوم التضامن الإنساني والتفكير والتفكر والعقل والتعقل ، وذلك لا يقتصر فقط على المواقف السياسية التي نعيشها اليوم فقد شاهدنا في السنوات السابقة وخلال مباريات كرة القدم مثلا ، حين تحمس الجمهور باندفاع معترضا على قرار الحكم بعنف ، فعمّت الفوضى أرجاء الملعب مما أدى إلى كارثة تأثر بها من تأثر ، وأصيب بها من أصيب !
تهيمن اليوم حالة من اللاوعي وعدوى المشاعر العنيفة بين أناس يحملون ويتشاركون ذات الصفات فيتبعون بعضهم البعض بسلوك السرب أو القطيع ، وأياً كانت الفكرة أو المبدأ الذي جمعهم تحت رايته سواء كان أصوليا دينيا ، طائفيا أو عرقيا ، أو حتى لو ظهر بأي صورة من صور الحداثة والعصرنة ، سيبقى سلوك القطيع هو ذاته رغم اختلاف هيئته الظاهرة ، فهو يكرس سلوكا جامدا ونمط غريزي غير خاضع للتفكير أو إعادة النظر فترجح كفته دائما نحو التعصب والأصولية والإنغلاق الفكري أو الطائفية !
من هنا أصبحنا نشاهد يوميا الكثير من صور إراقة الدماء ، بُثت روح الكراهية والحقد ، ومع التكبير والتهليل نرى أطفالاً يُعلَّمون كيف تقطع الرؤوس ! يُكرهون الناس بعضهم ببعض ويعلمون الإنسان إحتقار أخيه الإنسان لا لشيء إلا لأنه مختلف معهم في الرأي أو العقيدة ، شباب فقد إنسانيته بإسم الدين أو الطائفة ، حُمِل أفكاراً جعلته قاتلا في سبيلها ! حروب وانقسامات ونزاعات لن تنتهي يوما إلا بترك فكرة القتل لمجرد الأفكار . ولِعصور وأزمنة طويلة كان الإنسان يقتل أخيه الإنسان تحت رايات الجهل والتطرف ، لِيُسقِط حقه في الحياة على اعتبار أنه لا يستحقها بسبب اختلافه العقائدي والديني ، وفي الاختلافات العقائدية التي أدت إلى العنف نجد أن كل المؤمنين بعقيدة ما يرمون الآخرين بالكفر ويؤمنون بأن عليهم تطهير الأرض من أصحاب العقيدة الأخرى ! والأمثلة عبر التاريخ عديدة وكثيرة يطول شرحها ، فمثلا قبل قرون وعندما انقسم العالم المسيحي إلى قسمين في أوروبا قسم كاثوليكي وقسم برتوستانتي قامت بينهما حروب طاحنة فذهب ضحيتها أعدادا ًلا تحصى من القتلى ، وفي حروب الثلاثين عاما خسرت ألمانيا نصف عدد سكانها ودَمَّر الجيش السويدي ثلث مدنها كما انخفض عدد سكان الأراضي التشيكيه إلى الثلث ، أما الحرب الأهلية في اسبانيا فقتلت ستة آلاف من رجال الدين ومئات الآلاف من الضحايا ، ولا ننسى الحملات الصليبية التي قامت لذرائع دينية ، وحروب الردة التي أطلق فيها الخليفة أبو بكر حملة إبادة جماعية للقضاء على القبائل العربية التي أعلنت تركها للإسلام فاستُبيحت أموالهم ونسائهم ، أما الفتوحات الإسلامية التي انتشرت تحت راية الجهاد والدعوة إلى نشر الدين ، توسعت لتصل إلى العراق والشام والقدس ومصر وإسبانيا ليُقتل بسببها الملايين . الحروب الأهلية اللبنانية التي استمرت خمسة عشر عاما وقتلت الآلاف ، والحرب المأساوية المؤلمة في سوريا ، وأعمال العنف والقتل والتخريب في العراق ، ودائما كانت الطوائف الدينية تتذرع بالكثير من التبريرات والشعارات منها حق الخلافة أو إقامة الدولة أو الإمامة أو الثأر وغيره .
كل ذلك ولا يزال الصراع ممتدا بين الأحزاب والطوائف على السلطة وذلك لفرض رؤيتها ونفي الآخر بإسم الدين أو الإنتماء ، ولا تزال الضحايا تتساقط ، ولا زالت رموز الظلام تقتات على غرس العنصرية وبث الكراهية في النفوس !
أيها الإنسان .. ألم يحن الوقت للخروج عن مجتمع القطيع وتجاوزه ؟ متى ستدرك بأن مكانك الجغرافي والبيئي هو من قرر ماهية ديانتك منذ الولادة ؟ متى ستدرك بإنك ضحية أوهام وأفكار الهوية العقائدية والقومية الموروثة ؟
فهل يُعقل بأن نعاني كل ما نعاني ونقتل بعضا البعض لمجرد الإختلاف في الهوية والقومية أو الإنتماء العقائدي والديني أو الحزبي أو الطائفي ! لماذا لا ندرك بأن العصبية السياسية والدينية والإجتماعية تجرد الإنسان من أخلاقه وإنسانيته ! فالخوف من الآخرين هو ما يبعدنا عنهم وعن التصالح معهم فتراهم من بعيد يختلفون عنك ويرونك من بعيد مختلفاً عنهم ! وما نحن إلا بشر …
ولنتذكر معا ما قال المفكر والكاتب ميخائل نعيمة : لو أن البشر عرفوا الله لما قسموه إلى عبراني ومسيحي ومسلم وبوذي ووثني ، ولما أهرق إنسان دم إنسان ولا أبغض إنسان إنسانا من أجل الله …..
- صحيفة رأي اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق