ما من شك بأن تقصيرنا وانقساماتنا وتضارب خياراتنا شكل حاجزاً فيما بيننا وبين الشعوب الأخرى مما أدى إلى إضعاف تعاطف العالم معنا ومع قضايانا المصيرية الهامة كشعوب عربية تقبع تحت القمع والظلم ، وما من شك أيضا في أن ظهور التنظيمات والحركات الإسلامية المتطرفة ساهم في تشويه صورتنا العالمية اكثر فأكثر مما باعد بيننا وبين أهدافنا السامية لنيل الحرية والكرامة الإنسانية المفقودة وشوش صورة كفاحنا العادلة لنيل ما نصبو اليه كشعوب مسحوقة تعاني الظلم والفساد والفقر والإذلال ، ومع هذا لا يعتبر ذلك مبرراً كافياً ومقنعاً لكل ذلك السقوط الأخلاقي والسياسي الواضح من حالة الصمت للرأي العالمي العام أمام ما تمر به شعوبنا العربية ومعاناتها في فلسطين أولاً ومن ثم العراق وسوريا واليمن وليبيا ، فهل هناك ما يمنع فعلا من معرفة الحقيقة وإيضاح الصورة وإدراك ما يجري من الظلم الواقع على هذه الشعوب ؟ لماذا يُترك الإنسان وحيداً يواجه العنف بصدره العاري دون أي اعتراف بحقه في الحياة والوجود ؟ لماذا يتهرب العالم من مسؤولياته الإنسانية والسياسية تجاه شعوبنا المسحوقة ؟
لا أنكر أبدا بأن انقساماتنا السياسية والفكرية وتضارب خياراتنا وتشتتنا أضعف تعاطف العالم معنا لدرجة أننا لم نعد نشهد اليوم حتى لو مسيرة واحدة أو اعتصام أو تظاهرة شعبية تُنظَّم لتعبر عن موقف سياسي واضح او تعاطف إنساني أو تأييد يطالب الحكومات والقوى السياسية بالتعاطف والمشاركة الوجدانية معنا ، وهنا لا أقصد بأن تتبنى الشعوب الأخرى ثمن المساهمة في قضايانا ومآسينا إنما أقصد التعاطف والتضامن مع تلك القضايا وقيمها الإنسانية .
ربما كان تحييد وغياب مفاهيم الثقافة التضامنية على جميع المستويات ولفترات طويلة من الزمن حتى فيما بين أبناء الوطن الواحد سبباً من الأسباب ، لكن هذا ليس عذرا واضحا لانعدامها ، لقد باتت حالة لاإنسانية عامة لافتة تنطبق على معظم القضايا ، مما دفع بنا إلى حالة من اليأس والإحباط وفقدان الأمل بعدالة قضايانا أو انتصارها يوما ، فيما نشهد واقع تقديس المصالح الخاصة للقضايا المشتركة التي تحمل منفعة لدى القوى المتضامنة معها فقط والتي تتقاطع أهدافها وتطلعاتها معا لتحدد بذلك أصدقائها وأعدائها في حدود تلك المنافع ضمن مقاسات ومعايير محددة توحد خطاها لبلوغ أهدافها لا أكثر ، وهنا لا بد أن نتطرق إلى العولمة التي لا بد وأنها جعلت هذه القضية عالمية ومنتشرة في مداها فبدل أن تعزز الشعور بالوحدة الإنسانية زعزعت استقرارنا وعمقت الفجوة فيما بين الشعوب ، وتعمقت لتسيطر وتتحكم وتضع قوانين تجعل مجموعة من دول رأس مالية تتحكم في الاقتصاد العالمي لتبحث لها عن أسواق ومصادر جديدة بما يمد حدودها الاقتصادية ومصالحها مع دول وأهداف أخرى ، فلم يعد التضامن الإنساني من ضمن أولوياتها فالمصالح المادية والاقتصادية دائما ما تفصل وتحكم الأمور ، ولم يقتصر الأمر فقد على الأبعاد المادية أو السياسية إنما وصل إلى البعد الحيوي والثقافي الذي يتمثل في منظومة القيم ، فَتَحَوُّل العالم الكبير إلى ما يشبه القرية الصغيرة ، وسهولة الاتصال والتواصل والتنقل بين أطراف العالم المختلفة كان من المفترض أن يُنتج بعداً إنسانيا واضحا وتفاهما متبادلا بين البشر، إلا أنه ومع الأسف باتت نتائجه تُظهر العكس ، لقد استُغِلَ مفهوم العولمة لفصل العلاقات الإنسانية فلم ينجح في دمج سكان العالم في مجتمع عالمي إنساني واحد يحمل ذات القيم لتتساوى فيه الشعوب ويتم الاعتراف بحقوقها في تقرير مصائرها مما يضمن سيادتها وحريتها والعدالة لكل فرد فيها ، من هنا نجد تأثيرها السلبي يتنقل فيما بين أثرها الاقتصادي والثقافي على نمط الحياة وعلى نظامها الذي قضى على قيم العلاقات الإنسانية والتفاعل المباشر ، فأصبحت علاقات البشر تحكمها وتتحكم بها المادة فقط . أيضا لا بد هنا أن نشير للأثر الكبير والدور الذي لعبته الوسائل الإعلامية ووسائل الإتصال المختلفة حول العالم في انتشار سلبيات ثقافة العولمة بما يتناقض مع المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة ، مما حدد معايير سلوكية جديدة نشأت في ظل حالة الاقتصاد العالمي والثقافي الحديث الذي نعيشه جميعا بحيث تفتقر هذه السلوكيات للمعايير والقيم والغايات الإنسانية التي تجعل من الإنسان يستشعر وحدة المصير الإنساني ، فلم يعد يدرك بأن أي كارثة بشرية أو بيئية أو إنسانية قد تحدث في أي مكان من العالم قد تؤثر عليه وعلى مصيره الإنساني بشكل أو بآخر .
ها نحن اليوم نعيش في ظل غياب ثقافة التضامن الإنساني وانتشار الفوضى والتوترات والتناقضات وانعدام الأمن والاستقرار ، جميعنا يلهث خلف تطلعات وأحلام متناقضة وأوهام متضاربة دون أي أمل في الوصول إلى ضفة آمنة حتى اللحظة .
بالطبع لا يعود السبب إلى العولمة بذاتها فقط ، إنما إلى كل الأطراف المستفيدة من المصالح والأهداف التي كانت تسعى إليها من خلالها ، إذ لم يكن ضمن أجنداتهم يوما تحديدها أخلاقيا وإنسانيا أو سياسا لكي لا تتضرر مصالحهم أولا وليتحرروا من المسؤولية التابعة لمصائر تلك الشعوب المستباحة والمتضررة ثانياً ، من هنا ومن هذا الموقف تحديداً استفاد القوي وخسر الضعيف ، فاستِفادة الأقوياء خلقت لديهم نوعاً من العنصرية وكره الأجنبي وعدم تقبله ، ورفض اللاجئ والخوف منه ، وخسارة الضعفاء كرست الكراهية والحقد والعداء للغرب ورفضه ، وعدم الثقة به .
لم نعد نستشعر بوجود قضايا مشتركة بين البشر ولم يعد هناك أي إمكانية للتضامن حتى بين شعوب ذات المناطق فيما بينها ، انتهى عصر الأحلام للمشاريع الوطنية التي توحد تطلعات الشعوب كمشروع الوحدة العربية مثلا ، بات النزاع راسخا فيما بين نخبنا الوطنية والثقافية مما أسس لكل التطرف المذهبي والسياسي والطائفي الذي نعيشه اليوم ، بالتالي فقدنا أي تواصل فكري وثقافي فيما بيننا ، حالة من الضياع العام والأنانية السياسية والاقتصادية المدمرة ، كل هذا التفكك والغياب لكل القيم والمعاني السامية حول العالم ساهم بشكل فعال في قتل الضمير العالمي وغيابه عن المشهد الإنساني في قضايانا المطروحة كالأمن والحروب ، السلام والفقر والهجرة واللجوء ، فقدان الكرامة وغياب العدل .
عالميا نحن نعيش حالة مخاض صعبة جدا وعسيرة ، وصلت بنا إلى أزمة فكرية وسلوكية حقيقية ، فعلاً وممارسةً ، حالة من التخبط داخل الدول والمجتمعات وفيما بينها ، ورغم كل ما نعيشه من ثورة اتصال وتواصل فكري وتقدم علمي في شتى الميادين إلا اننا لم نصل بعد إلى المستوى الذي يجعلنا نُقدّر معنى التضامن الإنساني فنشعر بآلام الآخرين ومعاناتهم أينما وجدوا على هذه الأرض دون تمييز لأصولهم وأعراقهم وعقائدهم الدينية .
الصورة قاتمة وإحياء ثقافة التضامن بين الشعوب صعبة فالظلم والقهر سيد الموقف ، لكن علينا أن نخلق عالما جديدا بالقوة والمثابرة والصبر . لنعاود مراجعة حساباتنا الثقافية والفكرية البناءة ، ونتضامن مع كل فرد أو جهة تسعى جاهدة لذات الهدف وذلك لإحياء تضامننا الإنساني وجعل تلك القضية الهامة على سلم أولوياتنا لبناء أخلاقيات عهد جديد نرجوه ونتمناه جميعا لأبنائنا .
- صحيفة رأي اليوم