من سمات البشر الطبيعية اختلافهم بالأفكار والآراء ووجهات النظر والأذواق والميول وسبل التفكير، وذلك ليتسنى للإنسان أن يعمر الأرض بثراء وخصوبة وتنوع سائراً نحو الحضارة والمدنية برؤية شاملة وأفقٍ أوسع فيعيش حياة أفضل بعيدة كل البعد عن التعصب والتطرف الفكري أو المذهبي أو السياسي أو العقائدي، لذا كانت الاختلافات الطبيعية بين الناس رحمة للإنسان وفضل لا ينكره إلا ذوي العقول المتحجرة، ولا يعرف قيمتها ومعناها إلا من عاش تحت سطوة قهر الأفكار وكبح جماحها.
نعيش اليوم واقع مرير يتمثل برفض الآخر شخصاً وفكراً ووجود، وذلك لاختلافه بوجهة نظره السياسية أو الدينية أو المذهبية أو الطائفية، أو لآرائه الشخصية أو وجهات نظره، وتحولت كل الاختلافات إلى أدوات بيد من فقدوا ضمائرهم وإنسانيتهم ليعملوا على تغيير حياتنا وتبديلها إلى معاناة وعنف متجدد ونزاعات وصراع لتأخذ بذلك ثقافة الحوار بالانحسار حتى اضمحلت، لنجدها مع الأسف اختفت تماما خلال السنوات الأخيرة من حياتنا، فيترسخ غيابها في أذهان الناس ويتجذر في حياتهم بما أصبح واضحاً جلياً في تصرفاتهم وسلوكياتهم كأفعال وأقوال وممارسة يومية عادية، وإذا بالصوت الواحد الرافض للاختلاف يعلو مسيطرا علينا وعلى واقعنا بأن كل مختلف هو خائن أو عميل أو كافر أو متآمر، وبهذا يصبح المختلف مُنتهك ومباح! وهكذا أُعدمت ثقافة الحوار لتغيب عن قضايانا الإنسانية الكبيرة والصغيرة فتحل مكانها صراعات طائفية ومذهبية أو سياسية أو ثقافية واجتماعية، ويمتد الأمر ليصبح خارج السيطرة لنغدو بذلك الوقود والنيران التي تأكل نفسها بنفسها جراء ما نعيش من النزاعات والتشتت والهزائم والحروب.
إن الآراء التي لا تنبعث إلا من الرغبات الخاصة التي تبعد أصحابها عن الحق والعدل لا تؤدي إلا لزيادة التعصبات القومية والعنصرية ، كما أن الغرور والخيلاء أو قوة الإيمان بالفكرة وضعف إعصاب البعض قد يمنعهم من إدراك بعض الحقائق فحينما يكون التعصب للفكرة مسيطرا يبدأ الجدال مكابراً مسيطراً ظناً من أصحابه بأنهم على حق، كما أن التقليد الجاهل للأجيال السابقة والتعصب لآراء الأقدمين غالبا ما يؤدي إلى المشاحنة والمجادلة في غير مكانها إذ يصعب مناقشة من قيد نفسه بقيود من الماضي والأسلاف، كما أن اختلاف المدارك والأمزجة بين الناس، جميعها تؤدي إلى المجادلة والخلافات في غير مواضعها.
والمتابع لأوضاعنا المؤلمة في البلاد العربية منذ سنوات يدرك تماما ويشعر بأننا عشنا ولا زلنا نعيش حالة من تسلط الفكرة الواحدة التي تطغى على كل الأفكار وتسلط الرأي الواحد الذي يطغى على كل الآراء، واللون الواحد الظاهر على كل الألوان، هذا ما دفع بالطغيان والاستبداد لانتهاك العدالة والقانون وتجريم كل مختلف باعتباره خارج عن رأي المجموعة أو السلطة أو القطيع، مما صَعَّدَ لغة العنف ودفع بأوطاننا نحو الهاوية!
فكيف لنا اليوم بعد كل ذلك من إزالة تلك الآثار العميقة في نفوس الناس وحياتها! من هنا يتبين لنا ضرورة الدعوة لنشر ثقافة الحوار والتمسك بها كحل واحد ووحيد لكل تلك النزاعات والصراعات من حولنا والتي حولت حياتنا إلى جحيم مقيم، فالحوار البناء وحده ما يكفل للإنسان وضع كل الاختلافات والخلافات جانباً وذلك لصيانة الأرواح ووقف انتهاك الحرمات وسفك الدماء ليعم السلام وينتشر الأمن والأمان وفكرة تقبل الإنسان الآخر المختلف، بما يضمن لمجتمعاتنا الإصلاح وتجنب الفساد حتى يتم استغلال كافة القدرات والإمكانيات لتنمية الأوطان والارتقاء بها.
علينا أن نعترف بوجود الإنسان الآخر أولاً، فلم توجد هذه الحياة وتُخلَق ليتم تصميمها على مقاييسنا الشخصية فقط أو بحسب أهوائنا وأفكارنا! لندرك بأن هناك الكثير غيرنا من الناس يعيش على هذه الأرض، يحمل ذات الصفات الإنسانية التي نحملها وله ذات الحق بالحياة التي لنا وهو يحمل آمالا وأحلاما كالتي نحملها ولديه كثير من الطموحات كما لدينا، يشعر ويتألم كما نشعر ونتألم، يحلم بمستقبل واعد لأطفاله كما نحلم نحن بذلك، يحب الحياة كما نحبها ويتمنى الخير لوطنه وأهله كما نتمناه نحن أيضا، لذا علينا بالتآخي والتعايش مع الجميع ولندرك بأن لهم كافة الحق في إبداء الرأي ووجهات النظر والتعبير عنها تماما كما لنا، ولهم أيضا كامل الحق في ممارسة عقائدهم وطقوسهم الدينية بكل حرية كما لنا، هذا ما نصت عليه كل المواثيق الدولية والإنسانية عبر التاريخ. ينبغي تأكيد حق الاختلاف فعلا وممارسة وذلك من خلال تربية أنفسنا وأبنائنا والأجيال القادمة على نبذ الجهل والتخلف والانغلاق وتشجيع الجميع على تقبل الآخر والاختلاف بصفته سمة طبيعية من السمات البشرية التي تثريها بكافة ألوان المعرفة وأصناف الإبداع، فالإنسان المتحضر هو الذي يتفاعل مع الاخرين مدركاً أهمية الاختلاف واحترام الاخر رأيا وفكرا وعقيدة دون التقليل من شأنه أو من فكره أو من عقيدته.
من الجميل جدا ان نتحاور دون أن نهمش الآخر أو نعرضه للترهيب أو الاقصاء، من حق الانسان أن يكون مختلفا عن غيره وليس من الضرورة أن يتشكل ويتلون كما يُراد له أن يكون، نعم لثقافة الاختلاف لا الخلاف، ونعم دائما لثقافة الحوار حيث تجمعنا الإنسانية ويقربنا التفاهم البناء نحو أجواء تسودها المحبة والاحترام ..
- صحيفة رأي اليوم