يتضح واقع المستوى الثقافي للإنسان فيظهر جلياً عبر سلوكياته وتعبيره عن المواقف المختلفة، من خلال اعتقاداته المتّبعة وأفكاره وممارساته وتعاملاته، ومدى تذوقه وتقبله لشتى أنواع الفنون والثقافات المختلفة، ومن نمط العيش وطريقة خصائصه المتبعة في المجتمع والبيت والعمل، وكذلك مدى مشاركته واحترامه للرأي الآخر وإيمانه المطلق بحقوق الانسان واحترام القانون وكل المبادئ الإنسانية المُثلى.
من الأخطاء الشائعة بين الناس ذلك الاعتقاد بأن الثقافة تكمن في قراءة الكتب فقط! وفي الحقيقة هي تكمن أيضا في نمط وأساليب التفكير والسلوكيات والممارسات وطريقة الأداء والتعاطي مع الحياة والظروف المختلفة، لذا فإن تقدم وصلاح المجتمعات ورقيها لا يكمن إلا في المحتوى الثقافي والفكري لها، وبالتالي فإن عدم تطوير وتهذيب الثقافة بما يتناسب ومتطلبات العصر والمستجدات الحياتية يؤدي بالتأكيد لتراجع المجتمع وتخلفه.
تهيمن الثقافة الدينية على مجتمعاتنا فهي تقريبا المحتوى الرئيسي والمصدر الوحيد للمعرفة والاطلاع والحكم على الأمور، وهي الحاضرة المؤثرة بقوة على نهج التفكير والحياة والسلوكيات، حتى تكاد تنعدم أي ثقافة أخرى في ظلها، ليطغى اللون الواحد على كل الألوان في ثقافتنا بحيث تبدوا وكأنها تفتقر للتنوع والتلون والتعددية، والتفاعل والتواصل فيما بينها وبين الثقافات الأخرى المتنوعة المختلفة، وترفض مجتمعاتنا بثقافتها أي نقد فكري، معتبرة إياه نوع من أنواع التهجم على ثوابتها وتقاليدها، كما ترفض التغيير منتهجة أساليب التلقين والترديد وتقبل الأمر الواقع دون مناقشة أو تفكير أو تنشيط للعقل النقدي، ودون أي تجربة او معاينة او تمحيص، مما يؤدي لطمس الإبداع والتفكير والإنتاج.
هي ثقافة منغلقة على نفسها فتخشى التطور وترفض التغيير، وتعجز عن مواجهة ذاتها بالحقيقة التي أصبحت مرئية للجميع، كما تعجز عن مواكبة العصر وتحدياته، رافضة لكل من يخالفها في رؤيتها، فكيف السبيل إلى التطور ونحن لا نكترث لما وصلنا إليه من البؤس والتراجع! لا بد من مواجهة صادقة مع النفس للوصول الى رفض ثقافة الرجعية والاستبداد التي ما برحت أن تزرع جذور الفكر الإرهابي المتمثل فيها، بحيث نتمكن من اجتثاثه والتصدي له ولثقافة الخوف والتقاليد البالية والعادات السيئة، لقد أصبح الوضع لا يحتمل التأجيل أو التميع والتريث، فثقافة الاستبداد لم نعد نراها فقط في النخب الحاكمة أو في المجموعات أو القطيع، فالأمر قد تعدى ذلك بكثير، لقد انتشرت فوصلت إلى الافراد فيما بيننا كما وصلت للسلوكيات والممارسات اليومية والآراء والألفاظ والتعاملات، فبداخل كل منا شخص مُستبد يقوم بممارسة استبداده على كل من تطاله قدرته وإمكانياته وسلطته! فقد تشاهد الكثير من الآباء ممن يمارسون استبدادهم على الأبناء، كما تشاهد المدير أو المسؤول المتسلط باستبداده على الموظف، والموظف كذلك بدوره قد يستبد بموظف أقل منه درجة وظيفية، وكل منا قد يمارس التحكم والهيمنة والتسلط بمن هم أقل حظا منه وأضعف، وفي هذه الظروف التي نعيش بها الصراعات والفقر المدقع والتهميش والتعصب والجهل، فان واقع المرأة هو الأكثر بؤسا وتخلفا على الإطلاق، إذ لا زالت النساء في مجتمعاتنا تعاني استبداد المجتمع الذي لا يزال حتى الآن يحتفظ بنظرته الدونية لهن!
ويستمد الفرد استبداده من منتجات هذه الثقافة المتخلفة بما استقاه من الاستبداد والقهر والإكراه والتجبر والظلم، مما يقودنا إلى التخلف عن مواكبة المجتمعات المتحضرة، ومن أسوأ ما تحمله ثقافتنا هو عنصريتها القميئة لكل مختلف عنها سواء بالدين أو العرق أو اللون أو الجنس، ورفضه أو اضطهاده وعدم احترام حريته في اختيار معتقده الديني، وها هو الصراع البشع الذي يدور بين السنة والشيعة في بعض البلاد العربية لا يزال يَمثُل أمامنا ولا سبيل للنجاة منه سوى تنحي هذه الثقافة المهترئة جانبا، وإحلال ثقافة بديلة، تنويرية اجتماعية علمية متحضرة ذات مرتكزات ورؤى فكرية واخلاقية، تواكب متطلبات العصر والتقدم الإنساني والعلمي، بحيث تتصدى لكل هذه الظواهر السلبية وغيرها، وتغوص فيها بحثا عن جذور المشكلة وأسبابها لإيجاد الحلول الممكنة والسبل التي من شأنها أن تكرس وتنشر ثقافة تقبل الآخر والاعتراف بوجوده وحقوقه، كما تدرب مجتمعاتنا على أساليب الحوار البناء بشكل عقلاني منطقي على أسس الاحترام والتقدير، وتحث على الإبداع العلمي والفكري، فكل ما نمر به من صراعات وتطرف ونزاعات داخلية، ما هو إلا نتيجة طبيعية لمفاهيم إقصائية الآخر وتأثيره السلبي علينا بما أنتج لنا من منهج تفكير وسلوك متدهور أدى لانحطاط وانهيار إنساني خطير! لذا علينا بإصلاح وتطوير ثقافتنا أولا، وذلك للابتعاد عن كل ما يحط وينال من القيمة الإنسانية للإنسان.
يَذكُر عبد الرحمن الكواكبي وهو أحد مؤسسي الفكر القومي العربي، الذي اشتهر بكتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) حيث قال: إن المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة، إلا بأعوانه من أعداء العدل وأنصار الجور، الاستبداد أشد وطأة من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السيل، أذل للنفس من السؤال!
منذ قرون عديدة ونحن نغط في سبات عميق ونحمل على كاهلنا تراث السلف والاجداد ونقوم باجتراره صباح مساء، وكأننا قد توقفنا عن انتاج الحياة، تمر السنوات فيتقدم البشر ونحن كما نحن لا نقوم إلا باستهلاك ما ينتجه الغرب الكافر بحسب تلك النظرة المتطرفة المنتشرة لدى البعض! والخطر الحقيقي إنما يكمن في فكرنا وثقافتنا البائسة، تلك التي قيدت عقول البشر ومنعتها من السير قدما نحو التقدم ومجاراة العصر.
نحتاج اليوم إلى الكثير من الشفافية والمصداقية والشجاعة لأجل التغيير المطلوب والتركيز على التنوع وتقبل الاختلاف، فهناك الكثير من المفاهيم السلبية المترسخة في ثقافتنا مما يجب علينا حذفها وتركها بعيدا دون العودة اليها وذلك لتنقية أفكارنا وسلوكياتنا وممارساتنا الحياتية من شوائبها التي لطالما تصادمت مع منظومتنا الإنسانية، فالوضع الصعب الذي نعيشه اليوم يتطلب منا وقفة حقيقية، وأعتقد بأن الأمور لن تكون مستحيلة في حال تضامنت وتضافرت وتكاثفت الجهود الواعية المخلصة من الجهات المعنية بالتغيير، من منظمات المجتمع المدني وإمكانياتها الواسعة بالتغلغل في المجتمعات ودورها في نشر ثقافة الحوار وتقبل الآخر ونبذ التخلف والجهل، وذلك بهدف المضي قدما نحو الأفضل اجتماعيا ومنهجيا، كما أن للإعلام دور مهم ومؤثر في ذلك باعتباره مسؤولاً عن نقل الكثير من الأفكار البناءة إلى الناس، ولا ننسى بأن للفن والأدب الإنساني المتنوع دور فعال في ذلك أيضا، فهو بكل تأكيد من شأنه أن يلفظ تنميط الآخر وإقصاؤه حين تُكَرس جهوده وأهدافه لذلك، بالإضافة إلى الدور الهام للمؤسسات الثقافية من خلال إصداراتها وتوزيعها للنشرات التوعوية والمجلات الهادفة بشكل مستمر وذلك لإلغاء وإبطال الفروق فيما بيننا وبين الثقافات الأخرى.
من حقنا أن نعيش بكرامة واطمئنان على حاضرنا ومستقبلنا، وأن تربطنا علاقات السلام والتعاون مع المجتمعات الأخرى لنشعر بالأمن والاستقرار، لذا علينا أن ندرك بأننا على هذه الأرض نحيا معاً لنتعايش سويا، فعقلية القتل والصراع والتطرف والكراهية، تلك التي تتغذى من الثقافة المظلمة ستذهب بنا بعيدا إلى هناك، نحو دمار شامل للإنسانية جمعاء! كفى حروباً وموتاً وقتلاً باسم الله وباسم الشعارات الرنانة الفارغة التي تفتقر للإنسانية، لننهي كل أشكال التعصب والاستبداد والتطرف، والحط من قدر الكرامة الإنسانية وقِيمها، كفانا رعونة وحماقة وقهراُ وموتاً، فنحن لا نريد المزيد من المقابر الجماعية!..
- صحيفة رأي اليوم