مع كل كتابة إبداع جديد هنالك ولادة جديدة تدفع بقدرات صاحبها نحو إنجاز ما لتخلق معه الخلود، فالكتابة تمنح الكاتب أن يتأمل الواقع بكل أحداثه وهمومه وتطلعاته ليعبر عن ذلك ببصمةٍ دامغة تتفجر من وجدانه وعواطفه وأفكاره، فيتعمق فيها القارئ متأملا ذاته وروح الكاتب تلك التي حضرت المكان عبر كتاباته.
الكتابة تبوح وتسرد كل ما يثور ويدور في عقل صاحبها لذا فهي تعبر عن ذات الكاتب الإنسانية ومشاعره وأحاسيسه، وكم من كتّاب ناضلوا بالكلمة الحرة ليساهموا بذلك نحو التغيير الأفضل، هذا هو دور الإبداع في تنمية شخصية الإنسان والنهوض به، فهو وسيلة للتعبير عن مكنونات النفس البشرية التي نحتاجها بين الحين والآخر عبر التدوين والكتابة، وهي الطريقة الأكثر فاعلية يتبعها من يَصدُق المساهمة في إحداث التغيير والإصلاح في المجتمع، وذلك من خلال طرح الأفكار وإيصالها للناس، خاصّةً إن تمتّع الكاتب بأسلوب وقلم شيقين.
قرأت ذات مرة هذه المقولة: إن أضعف حبر يكتب به القلم لهو أقوى من أي ذاكرة إنسانية! هنا صارت الفكرة تنبثق من وجداني وترتقِ بي إلى عالم له خفاياه ومزاياه، فبت أصبو لأصعد أدراج الحياة متكئة على حروفي التي لا تزال تهطل من حين لآخر كنسمة منعشة فيخضر قلبي بالأمل، من هنا أدركت سبيلاً لمقاومة انطواء العمر! فلربما يحتفظ الكاتب بالزمن عبر ما يخطه بشهادته على عصره وما ينبض به من فكر وشعور ، فإن كان ما يُدَونه أصيل فسيبقى ليعيش ويخلِّد معه روح اللحظة التي لن تتوارى أبدا بعد كتابتها، ولن تُطوى بفعل الزمن الذي عادة ما تجتهد في استباقه كل الأشياء والموجودات، فحين تُخَلَّد الفكرة بعد الكتابة عنها والتي نعايشها كموجوداتٍ بشرية، فإنها تقيم وتبقى لتعيش معنا عبر لحظاتنا الزمنية .
هكذا أدركت معنى البقاء، وفهمت بذلك معنى صمود الإبداع في مواجهة العبور الزمني الخاطف نحو العدم، فهنالك أحداث تمر مشكِّلة عمقاً في الذاكرة إلى الأبد مهما ضعفت بهيئتها وإيماءاتها، وأحداث أخرى تهرب من ذاكرتنا فلا يتبقى منها أي رسم أو صوت أو صورة، وفي النهاية قد تبدو المواقف وحدها هي التي تغزو الذاكرة، وما نحن إلا حصيلة المعايشة الحقيقية للواقع بما يستنبته في تربته تاركاً أثره العميق فينا. فحينما تتكاتف على الإنسان الظروف أو المواقف ويشعر بثقلها يجد نفسه منخرطاً قسراً في الألم، فيضجر من كل تلك الضوضاء ويقرر النأي بذاته عن حالة الكآبة التي وقع في فخها! في مثل هذه الأوقات يحتاج الإنسان الى التواصل ليستعيد معه الحياة، من هنا كانت الكتابة هي إحدى وأهم طرق التواصل التي تساعد الانسان في العودة إلى ذاته مُتَوجِّها إلى الحياة مستمتعاً بمباهجها، فمن خلال ما يبوح به الكاتب عبر سطوره معبراً عن تجاربه الحياتية وأفكاره وآرائه، استنتاجاته وخبراته وأقواله، يضيف بذلك تجربته الكتابية والإبداعية إلى المسيرة الإنسانية في محاولة لتقريب المسافات فيما بينه وبين القارئ .
وعن نفسي فأنا لا أجزم بأني كاتبة، لكنني أحب الكتابة حقاً فهي تعبر عني وتشعرني بارتباطي الإنساني مع الحياة، قد تكون تجربتي عبر الكتابة حتى الآن قصيرة، إلا أنها تُكتَب بتلك الروح الثورية التواقة إلى الحياة التي لا زال فيها ما يدهشني، ولا زال قلبي يتدفق مكتظا بجمالها رغم وحشة الواقع ، قد أتعثر في الكلام فأصمت، لذا عادةً ما أحاول التواصل مع الآخرين عبر ما أبوح به من الحروف التي تفتح بابي أليهم فتطرح رؤيتي ووجهات نظري بكل بساطة. هكذا أمضي متطلعة إلى الحياة فأنشغل بها وتنشغل بي لأجد نفسي دائما تلميذة مجتهدة محاولة ابتكار حلولاً عديدة لكثيرٍ من المسائل، وما أن أُصيب حتى يبتهج قلبي بالفرح، فأتوارى خلف الحروف كطفلة صغيرة تقودها امرأة مزهُوّةً بالثقة، فلا ألبث أن أهدأ حتى أعود للانشغال مجددا لاهثة خلف مسألة عالقة جديدة تتطلب مني حلولاً لم أتعرف إليها بعد، فأهرع إلى الكتابة التي دائماً ما تبدد وحشتي وتوَّثِق علاقتي بواقعي والمكان ، وتجمعني بمحيطي وتنادي على مفرداتي بما فيها من أفكار وأماكن وشعور، فأتظلل بظلها وأطل بها على زمنِ ومكان آخر ، لذا سأظل أكتب ما حييت متكئةً على حروفي حتى يكتمل المشهد ويتوارى المساء على شرفات الياسمين……
صحيفة رأي اليوم