بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 23 يونيو 2017

صباح بشير: الأصولية.. ثقافة أم ظاهرة معاصرة


نواجه اليوم معضلة كبرى ضمن حدود وطريق ضيق المخارج، وذلك بتغيير وتبديل السياسة وتحويلها إلى دين من خلال إعادة تفسير الكثير من النصوص الدينية وتقديم قراءاتها للواقع المعاش، وعلى ضوء تلك التفسيرات نجد بأن هذه القراءات تتحول تدريجياً إلى أيديولوجيا دينية تجعل من السياسة وكأنها تبدو ممارسة دينية قد فُرِضت على المؤمنين أينما كانوا، محولةً الرؤية كاملة لمواقف دينية إقصائية تتبنى خطاب الكراهية، ذلك البعيد كل البعد عن الهويات الروحية للناس التي يجدونها في الدين مستشعرين راحتهم النفسية من خلالها.

هكذا تم توظيف الدين لخدمة السياسة، وهكذا استُخدم العنف وبُرِّر بإضفاء الشرعية على ممارسته، كذلك يتم استغلال تَديّن الناس ضمن قضايا ومآرب واقع المصالح، فما فَتِئَ الدين يوما من قوته العظيمة في إعجام إرادة الشعوب وتحريكها نحو التحدي والمقاومة، وهنا تبرز خطورة الايدولوجيا الأصولية التي تخلق العداء للحضارة المعاصرة وللآخر المختلف وكل تقدم حضاري وثقافي! فهي عادة ما تُهمل المصالح العامة للمجتمع وتعمل فقط على فرض رؤيتها الخاصة، لتجعله غارقا في دوامة من الصراعات الدينية والطائفية والعرقية، متناسية بأننا نعيش عصر التقدم العلمي والفكري والتغيير والإنجاز في جميع مناحي الحياة المختلفة، فلم يعد متاحا اليوم للبشرية أن تعيش عصور الجاهلية الأولى لترضي تلك الرؤية الأصولية المتطرفة التي لا زالت تعيش بفكرها ضمن تلك الحقبة الزمنية المتحجرة! كما أن الأصولية تتجاهل تماماً بأن ثقافتها البائدة تلك التي وُلِدَت ضمن عصورٍ تحمل ثقافة أصحابها ونمط حياتهم، إنما هي تختلف اختلافا جذريا عن واقعنا وعصرنا الحديث، فما الثقافة إلا نتاج فكري ينمو ليعيش ضمن عصره وواقعه وزمنه، وانعكاس لظروفه المُعاشة في وقته وحينه، كما أنها تحمل كافة المخرجات للبيئة الاجتماعية والنفسية التي أنتجتها، وهكذا فإن لكل عصر فكره وثقافته، ولكل ثقافة معطياتها، فلا يجوز بأي شكل من الأشكال فرض معطيات الثقافات القديمة على واقعنا المعاصر، فحقيقة معطيات تلك الآيديوليوجا إنما تتمثل في مجموعة من الأفكار المنغلقة على نفسها فقط، وبرأيي الخاص ومما لا شك فيه بأن سقوط تلك الأيديولوجيا الأصولية التي تناهض الحياة بكل تفاصيلها وتتعارض مع منطقها وتحرَم علينا تفاصيلها، بل وتتناقض مع الإنسانية لما تحتويه من كراهية وإرهاب جسدي وفكري، هكذا فإن سقوطها أمر لا بد مُحتَّم وهي مسألة وقت لا أكثر، قد يطول وقد يقصر، هذا ما لا أعرف، إنما علينا بالتمسك بما أمكننا من الحلول التي تنادي بفصل الدين عن السياسة، فالدين بقيَّمِه القادمة من رحم الثقافة هو مسألة فطرية ترتبط بالناس ارتباطا وثيقاً، لذا فمن الأجدر أن تُترَك للناس حرية ممارسة الأديان بعيدا من السياسة، وأن تمارَس السياسة بهدف السياسة واسمها لا باسم الدين، ولتُترك للناس حرية اعتقاداتها وأفكارها دون فرض القناعات والمواقف والتفسيرات لفكر معين عليها، ودون تخويفها وتكفيرها وتهديد حياتها بالخطر، فلا أحد يملك الحقيقة الكاملة المطلقة، لذا فلا يحق لأي إنسان أن يدعي بأنه صاحب الفكر الأفضل وأنه صاحب الفضيلة وأن له الحق بفرض فكره الديني على الآخرين.

علينا أن نتعايش ونتوافق دون أن نضر بقناعات الآخرين والسعي لإلغاء وجودهم، على الجميع أن يناضل لأجل استحضار كل القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية بكل أبعادها والتي تحقق المصالح العامة للجميع دون استثناء، لننبذ كل الأفكار الأصولية المتطرفة التي تدعو لإلغاء الآخر والقضاء عليه، فظاهرة بروز الأصولية الدينية المتطرفة تهدد مجتمعاتنا بخطر حقيقي يتربص بمستقبلها عبر خطابها المنغلق وتعصبها تجاه الآخرين ومجاهرتها بالعنف وتبنيه كحق طبيعي للدفاع عن مصالحها الخاصة مانحة إياه مسحةً مباركة مقدسة.

الآن وبعد كل ما وصل اليه الإنسان من تقدم علمي وتكنولوجي، لماذا يتمسك البشر بالأصولية وثقافتها البائدة؟ لماذا نصر على إحياء مقولاتها الآفلة؟ وكيف لنا أن نواري إنسانيتنا أمام سوق الاستهلاك الديني الذي طالما روجت له الفضائيات التلفزيونية ووسائل الاعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي لتروض به عقولنا وتشل به حواسنا حتى نستسلم حين نشاهد رجل الدين المنفعل الثائر الذي يحث الناس على ردود الأفعال الغاضبة العنيفة!

هكذا سُخِّرت المنتجات العقلية العلمية الحديثة للتآمر على عقولنا وإنسانيتنا معلنة حربها المقدسة على الحياة.

- صحيفة رأي اليوم 

الاثنين، 8 مايو 2017

لون من ألوان الحياة

في هذا العالم المتكدس بالشعارات والخيالات وكثير من اليقينيات والحتميات والعديد من الصور الإنسانية المشوهة، يتسلل الضجر والارتياب والسأَم إلينا لنشعر أحيانا بإحساس هادر يشدنا إلى البعيد هربا من كل الضجيج والنفاق والقلق وكل تلك الفوضى من حولنا، حيث الموسيقى التي دائما ما تعلمنا تدوير الألم وتحويله إلى سكينة وطمأنينة وهدوء نفسي، لنتناسى بذلك ضعفنا وخوفنا وكل الشروخ والخسائر والألم، فنعيش على أنغامها زمن من البطولات والجمال والعذوبة، حيث الكون المتسع بمساحته الشاسعة من الحرية بكل جمال ألوانها وأطيافها.

الموسيقى، ما هي إلا فكر العقلاء وفنهم، فمن خلفها أحاسيس وعواطف تلك العقول السليمة المحركة التي تشدو بنداء القلب مطالبة بالحب والسلام والأمان عبر إيقاعات الحياة النابضة بألوان الحياة، لتُقبِل علينا بتناسق قوالبها المعمارية وتَقبُّل الإنسان لأخيه الإنسان دون النظر لجنسه أو لونه أو عرقه أو مُعتقدِه، فتعبر بذلك الموسيقى عما تعجز عنه الكلمات، فهي الأكثر إلهاما لطالما كانت وستظل تكون، وهي تُشعل فين لهيبا قد لا ينطفئ من عشقٍ صامتٍ وطرب، حيث تجعلنا نذرف الدموع طربا وتأثراً بها، حباً أو نبلاً أو لفرط الإحساس.

تؤثر الذبذبات الموسيقية على الأعصاب فهي تبعث في النفس إحساس عميق بالاسترخاء والراحة، وهي فعالة جدا في القضاء على كل مسببات الكدر والكآبة وكل ألم نفسي أو معنوي.

يأسرنا صوت العود فهو من أجمل الآلات الموسيقية بعذوبة ألحانه، كما نعشق صوت آلة القانون بعراقته وأصالته الثرية الغنية، أما صوت الناي وأنينه وشدوه، فيسلبنا من أنفسنا آخذاً إيانا هنالك صوب السحاب لنحلق في الهواء فيما ما بينَ الأرض والسماء، ولترتجف قلوبنا طرباً في كل مرة نسمع فيها لحن عذب شجي جميل، هكذا هي الموسيقى تحاكي المشاعر والإحساس وتفتح بها أرواحنا على أسرار وآفاق ومسافات، تستثير فيها كلمات تعادل الصمت سحراً، همساً وخيالات.

وينسكب الزمن مسرعا فلا نشعر بسطوة الوقت ولا كيف تُسرق منا اللحظات حين نصغي إلى الأنغام فنشعر بكل مواطن القوة فينا أحيانا، في عالم يصدح بالفرح، ويهمس أحيانا أخرى في القلب كحزنٍ صامت أو تَرَح، فتتراقص الدهشة منا طربا وتعلن بذلك الكلمات انسجامها مع النغمات لتسمو هنالك في الأعالي فترتقي في عالم من الغِبطة والهيام، وننسى همومنا والأحزان، وتنقي رقة الألحان مسامعنا من كل ركام وجَلجلَة وصخب، فتدغدغ مشاعرنا حين يدندن الوتر لحنه في الأذن، معبراً مؤثرا بنا، لنكتب به حكاياتنا بدموعها والابتسامات، وتنبت في قلوبنا حقول ونسمات وخطوات تسير بنا نحو الأضواء، حيث تُشَدُ أرواحنا لعالم من النقاء والارتقاء.

لا زال هناك متسع من الوقت لنصلح ما تصدع في أرواحنا واغتالته المتاهات عبر كل تلك الاضطرابات من حولنا، فدائما ما تُعلمنا الموسيقى الخروج عن المألوف، فليست الحياة بما نفعله ونمارسه فقط بشكل يومي وبذات الطريقة المحددة التي تسير على ذات النهج والوتيرة في عمل كل الأشياء، إذ لا بد لنا أحيانا بشيءٍ من الجنون، فما نحياه من الرتابة والروتين قد يؤذينا لولا حضور الموسيقى في بعض ثنايا الحياة من حين لآخر، ولولاها لما زهت حياتنا بمتعة الحياة، فهي اللغة التي تحاكي واقعنا بملامح الجمال وتلامس أرواحنا بكل عذوبة لتظهر لنا وكأنها قادمة معتّقَة من حكايات ألف ليلة وليلة، فتروي لنا وتقص علينا كل الكلام المباح في حكايات شهرزاد المتجددة يوميا في عمق قصصها والروايات.

صحيفة رأي اليوم 

الأربعاء، 8 مارس 2017

في يوم المرأة العالمي.. كل آذار وأنتن بخير

تناضل المرأة العربية منذ عقود لأجل تحقيق المساواة الكاملة فيما بينها وبين الرجل في كافة المجالات، ولست أبالغ حين أقول بأن ما حققته المرأة من نجاح في المجتمعات الغربية لم نتمكن من تحقيقه حتى اليوم في مجتمعاتنا، فلا زالت نساؤنا حتى الآن لا تتمتع بذات الحقوق الذي يتمتع بها الرجل، فهي تعاني الاضطهاد الاجتماعي في كثير من المناطق العربية،ولا زلنا نشعر بمحدودية دورها في المشاركة بمعظم الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يشير الى العديد من مظاهر التخلف أحيانا أو الاستبداد والتبعية والجهل أحيانا أخرى في ظل غياب العدالة الاجتماعية. ومع أن هذه القضية تختلف وتتفاوت لدينا من منطقة لأخرى إلا انها لا زالت موجودة نشهدها حتى اليوم، خاصة في المناطق النائية أو الريفية القروية المهمشة، لذا فمن الواضح بإن كل ما حققته الحركات النسوية العربية حتى الآن، هو غير كاف وغير مرضٍ على الإطلاق، بالرغم من وجود الكثير من النساء القياديات اللواتي ساهمن في مسيرة النضال الاجتماعي لأجل تقدم قضية المرأة، هذه القضية التي نتحمل مسؤوليتها جميعا رجال ونساء على حد سواء.

وفي يوم المرأة العالمي نغتنم الفرصة لأجل تسليط الضوء على استمرار الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة بما في ذلك الاضطهاد الاجتماعي أو التمييز وتهميش النساء، سواء كان ذلك بسبب العادات والتقاليد البالية أو التفاسير الخاطئة للكثير من النصوص الدينية، بانتظار ان تتغير كل المعطيات السلبية في الكثير من المناطق العربية إلى الأفضل، وهنا أدعو جميع النساء للعمل لتوحيد طاقات المرأة العربية للعمل معاً لتفعيل دورها والمشاركة في جميع الساحات السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها من المجالات الممكنة لإيجاد ما يمكن من الحلول لكل ما يتعلق بالمشاكل والأوضاع الاجتماعية التي نعيشها.

وفي الثامن من آذار العطاء والخير، وبانتظار فصل الربيع من كل عام، نحتفل جميعا بقلب المجتمع النابض، لنكرم المرأة في يومها (يوم المرأة العالمي) المرأة التي تجسد نماذج الإبداع المختلفة عبر التاريخ وفي كافة مجالات الحياة متطلعة الى الغد الأفضل، وبهذه المناسبة نرسل بتحية تقدير لجميع النساء اللواتي قدمن لأوطانهن أعظم الهبات والتضحيات، فكل التحية الى جميع النساء المناضلات على كافة الجبهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وإلى تلك المرأة المثقفة الواعية لحقوقها وواجباتها، المناضلة لأجل قضيتها ومساواتها مع الرجل رفيق الدرب والحياة، يسيران معا لبناء العقول النيرة، فتحية احترام وتقدير لكل من يحترم المرأة و يعمل على رفع مكانتها ويعترف بدورها وقيمتها وأهميتها في الحياة، وتحية من كل امرأة الى كل رجل يقدرها وينظر إلى قضيتها كجزء لا يتجزأ من قضايا المجتمع، مؤمناً بأن فكرة النهوض بالمجتمع والرقي به لن تكون إلا بمشاركتهما معاً دون تفرقة.

 تحية إجلال وإكبار للنساء الصامدات الصابرات من أمهات الشهداء والأسرى في ظل الحروب والصراعات والانقسامات، نساء فلسطين وسوريا والعراق واليمن، اللواتي قدمن أعظم التضحيات وأقدرها، هؤلاء هن النساء اللواتي نكرمهن اليوم في يومهن العالمي، فهن اللواتي ضربن أروع الأمثلة في التضحية والصبر والفداء.

كل آذار وأنتن بألف ألف خير، دائما ومعا لنتمسك بالأمل ونصبو نحو مجتمع أفضل، أكثر تفاؤلا وإنسانية ورحمة، مجتمع اقل ظلما وعنفا، وأقل تمييزا…

- صحيفة رأي اليوم

الجمعة، 17 فبراير 2017

لنبدل خطاب الكراهية بخطاب الإخاء الإنساني

في كل يوم يسير عالمنا نحو التطرف أكثر وبشكل ظاهر مخيف، فقد يبدو اليوم أنه من الصعب الحديث عن روح التضامن والإخاء والتعاضد في وقت لا تكف به العديد من وسائل الإعلام والقنوات الفضائية في هذا العالم عن الحديث وبث صور الكراهية والتعصب بكل أشكاله، مما ساهم في غرس نزعات وأفكار الكراهية في عمق المجتمعات الإنسانية، خاصة بعد الإخفاق المستمر في زرع بديلها الإنساني من التعايش والتعاطف وتقبل الآخر والتعاون، إذ لم نعد نشعر بالأمل بغد أفضل قد يحمل لنا السلام والأمن والأمان للعالم بشكل عام ولمنطقتنا العربية بشكل خاص، فقد ساد خطاب الكراهية حياتنا خلال السنوات الأخيرة ليدخل ضمن سلسة الأحداث التي تشغل بلادنا العربية، فهزت استقرارها وأمانها وثباتها، مما دفع بمنطقتنا إلى المزيد من الصراعات والفوضى التي أودت بحياة الأبرياء كما مَسّت بالحرمات والمقدسات من بيوت العبادة وأدت إلى تصاعد حالة التحريض على الانتقام والثأر ونزاعات متكررة وصراعات دائرة بلا نهاية، كل ذلك أدى بنا إلى الانزلاق في متاهات سوداء من الفوضى والعنف والقتل والدماء!

من الملاحظ أيضا بأن لوثة الكراهية المنتشرة فيما بيننا كجماعات وأفراد بشكل مربك مقلق، قد ساهمت في تنامي ظاهرة الطائفية ببشاعتها، هذا الخطر الذي نشاهده يوميا بمعالجته الخاطئة المتمثلة بمزيد من الطائفية المضادة التي اخترقت بشكل كبير، الكثير من تفاصيل حياتنا اليومية المختلفة فأغرقتنا في بحور الاحتقان والانقسام والتنافر والتناحر، من هنا أصبح خطاب الكراهية من أهم التحديات الراهنة التي تواجهها مجتمعاتنا، فلا شك بان داء الكراهية هو من أخطر الأمراض التي تهدد الإنسانية جمعاء منذ نشأتها وحتى وقتنا الحاضر، وهو ذلك المرض البغيض والخطر الذي يُراد من خلاله تفتيت مجتمعاتنا ومنع تماسكها، فهو يفضي لزرع الفتنة والبغضاء بين مكوناتها وجميع شرائحها المختلفة المتنوعة التي كانت قد تعايشت منذ سنين بكل محبة وتفاهم وتآلف، كما يهدد هذا الداء حقوق الإنسان بالاضطهاد والعنصرية وكبح الحريات ومنعها، فخطاب الكراهية المريض يثير مشاعر البغضاء والحقد بين الناس، كما ينادي بإقصاء البعض واغتصاب حقوقهم والتقليل من شأنهم والتمييز ضدهم، فهو يصنف شرائح المجتمع المختلفة بصورة تُخرِجهم عن حقهم الإنساني في الوجود وتَخرُجُ عن كل الأبعاد الإنسانية والمعايير الأخلاقية والمنطقية وكل الاعتبارات الاجتماعية، كما أنه السبب الرئيسي بتحليل الجرائم بكل اصنافها عبر التاريخ، فهذا الخطاب المقيت لطالما تبنى لغة صدامية قاسية تعتمد على تشويه الآخر واستهجانه والتقليل من شأنه والتحريض بالإرهاب ضده، مما يؤدي لنتيجة مأساوية من القهر والانقسام والدمار كما هو حالنا اليوم!

إن خطاب الكراهية هو خطاب انفعالي لا مكان للمنطق أو العقل أو التفكير السليم به، فمن خلاله يتم التحريض على الآخرين وفقاً لدوافع ومصالح خطاب الكراهية ذاته، فهو يقوم على التمييز العنصري بين البشر ويعمل على هدم الأمن وثقافة السلام، كما يقتل روح التسامح والمحبة بين الناس، وهو السبب الرئيسي في تدمير التوازن بين العلاقات الاجتماعية، وهو ما يحرك نوازع الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد مهددا لحمته ووحدته.

 من هنا علينا أن ندرك بأن بيئة الكراهية هي المكان الملائم لصناعة الخراب والإرهاب في المجتمعات، لذا ولمعالجة هذه الآفة، نحتاج أولا وبقوة العمل على إيقاف ومنع الدعوة إلى الكراهية والعنصرية الدينية بكل أشكالها، كفى تحريضا وتمييزا وعداء وعنف، لماذا لا توجد لدينا تشريعات حقيقية وإجراءات عقابية رادعة تكافح التمييز لأجل الوقاية من هذا المرض الخبيث، فتحمي الأقليات والفئات الضعيفة المهمشة وتضمن لها ممارسة حقوقها التي كفلتها كل الشرائع والقوانين الدولية.

 كما نحتاج اليوم وبشدة لخطاب إيجابي هادف يحل مكان خطاب الكراهية والتعصب، حيث يتم التركيز فيه على قيم التسامح والمحبة بين الناس وضبط النفس، علينا أيضا ان لا نتجاهل أهمية التوعية لهذا الموضوع التي من شأنها الإسهام بوقف التحريض والتعصب على أساس التمييز في القومية أو العرق، أو الدين والمعتقدات أو الجنس، وهنا علينا أن لا ننسى دور وسائل الإعلام في التثقيف والتوعية، فهي الوسيلة الرئيسية التي تعمل على إيصال الرسالة إلى عقول الناس وأذهانهم من خلال تقديم خطاب إنساني تصالحي إيجابي جديد.

أخيرا يحضرني ما قاله المناضل السياسي نيلسون مانديلا : “لا يوجد إنسان ولد ليكره إنسان آخر بسبب لونه أو عرقه أو دينه، لقد تعلمت الناس الكراهية، فإن كان بالإمكان تعليمهم الكراهية، إذاً لنسعى أن نعلمهم الحب، خاصة أن المحبة أقرب لقلب الإنسان من الكراهية.”

- صحيفة رأي اليوم 

الجمعة، 3 فبراير 2017

واقع ثنائي الأقطاب !

لماذا لا توجد خيارات؟ السياسيون ورجال الدين يحاولون اقناعنا دائما بعدم وجود أي خيارات بديلة.

كَون البعض ضد الأنظمة المستبدة لشعوبها فهذا لا يعني أنهم قد يؤيدون الجماعات الإرهابية التي تقتل الأطفال والنساء تحت شعارات ومسميات مختلفة، وكون البعض الآخر لا يؤيد النظام الثيُقراطي أو رجال الدين لتطرفهم بإسم الأديان فهذا لا يعني بأنهم كفار، أليست الإخفاقات المستمرة وفشلنا في إيجاد خيارات منطقية هو ما عزز العودة إلى الحالة الدينية المتطرفة الأصولية التي نعيشها اليوم؟

قد يكون للحقيقة وجوه وجوانب عديدة، وحين تختلف رؤيتنا وتقييمنا للأمور فهذا لا يعني أن أحدنا على خطأ، قد نكون جميعا على صواب لكن لكل منا رؤيته الخاصة التي لا يراها الآخر ولم يستوعبها بعد.

 إن لم تكن معنا فأنت ضدنا، مصطلح لا إنساني يبرر شعار غير أخلاقي! فلماذا أصبح العالم ثنائي الأقطاب؟ إن هذا المصطلح يتقوقع في قالب ضيق مآله إلى التغيير لا محالة في ظل وجود عوامل تفرض ذلك، وإن لم نتقبل ذلك التغيير فسنصبح ظاهرة غريبة خارجة عن الزمان والمكان والتاريخ.

لا أحب السياسة أبدا لهذا لم أفكر يوما بالكتابة والخوض فيها، حيث أجد نفسي دائما عبر الكتابة الإنسانية بجمالها وروعتها، فالسياسة لها حساباتها ورؤاها المختلفة لكل من المصالح والأهداف التي تتعارض بطبعها المادي مع القيم الإنسانية الشفافة، وواقع السياسة غريب! فهو يقتل المنطق ليفرض نفسه علينا محاولا أن يقنعنا بأن الظالم مُنتصر لا محالة وأن المظلوم لا بد وأنه مهزوم! وها هو ذات الواقع يحاول اقناعنا بأن تقديس الأوهام والايديولوجيات السياسية التي تفرض تصوراتها وأفكارها على مجتمعاتنا ما هي إلا مبادئ ومقدسات لا يجوز التخلي عنها، وأنها خطوط حمراء ممنوعة من التجاوز! تبريرات للوقائع والأحداث واستبسال في الدفاع عنها، ومن خلال ذلك تصنف الانتماءات وتصدح الكلمات الرنانة متحايلة على الشعوب لتدس لها الأفكار بكل خبث ودهاء، في محاولات للإقناع بوجوب التمسك بها ونجاعتها.

باتت الصراعات والانقسامات اليوم، لعنة تلاحق شعوبنا المهزومة لتصل خلافاتنا ذروتها، لقد وصلت إلى الرؤى والأفكار والسلوكيات والممارسات، لم نعد نتفق على شيء، بتنا نسمع ونشاهد العديد من التفاسير لأشياء أصيلة لا مجال لجدلٍ فيها أو نقاش، أو مواقف وأفكار لا تحتمل خلاف أو نزاع، ولم تكن تلك المتناقضات في الماضي تحمل سوى طابع واحد غير متعدد الملامح أو الوجوه، إلا أننا اليوم بتنا نختلف على الثوابت وكثير من المواقف وكل الأمور والأحداث والمستجدات، ومما يزيد الأمر سوءاً اقحام الدين لآفاق السياسة ليشعلها بالفتن ويبدأ بنا عصر من المحن، وكل هذا الموت والقتل والعنف والإرهاب والاستلاب، وأصبح هناك الكثير ممن يظنون أنفسهم ينطقون بإسم السماء والأكوان، باعتبارهم يحملون وصاية الدفاع عن الأديان! ودون أدنى مسؤولية وأي اكتراث بتطرفهم وتعصبهم الذي يقلب الأحداث، نسير من خلفهم دون وعي أو تفكير فتدفع الأوطان بذلك الأثمان وخسارة في الأرواح والقيم وانعدام في الأمن والأمان.

على ضوء ذلك تتسلل إلينا العديد من الأمراض السياسية بأوبئتها، مما يجعلها تتحكم فينا، بفكرنا وسلوكنا وتحدد مواقفنا ومصالحنا والأهداف، لم يعد الوطن ودودا رحيما كما كان يجمعنا سابقا تحت مظلته وثوابته الأصيلة، فالسياسة بطابعها البغيض قد تدخلت ففرقتنا وغيرت من طبيعة شعوبنا الطيبة، وشوهت المبادئ والقيم، واستنزفت جُلَّ قوانا وكل الطاقات، فأخرت مسيرتنا وألقت بنا هناك بعيداً نسير خلف ركاب الأمم….

- صحيفة رأي اليوم 

الاثنين، 30 يناير 2017

ثقافة الإستبداد ذات اللون الواحد !

يتضح واقع المستوى الثقافي للإنسان فيظهر جلياً عبر سلوكياته وتعبيره عن المواقف المختلفة، من خلال اعتقاداته المتّبعة وأفكاره وممارساته وتعاملاته، ومدى تذوقه وتقبله لشتى أنواع الفنون والثقافات المختلفة، ومن نمط العيش وطريقة خصائصه المتبعة في المجتمع والبيت والعمل، وكذلك مدى مشاركته واحترامه للرأي الآخر وإيمانه المطلق بحقوق الانسان واحترام القانون وكل المبادئ الإنسانية المُثلى.

من الأخطاء الشائعة بين الناس ذلك الاعتقاد بأن الثقافة تكمن في قراءة الكتب فقط! وفي الحقيقة هي تكمن أيضا في نمط وأساليب التفكير والسلوكيات والممارسات وطريقة الأداء والتعاطي مع الحياة والظروف المختلفة، لذا فإن تقدم وصلاح المجتمعات ورقيها لا يكمن إلا في المحتوى الثقافي والفكري لها، وبالتالي فإن عدم تطوير وتهذيب الثقافة بما يتناسب ومتطلبات العصر والمستجدات الحياتية يؤدي بالتأكيد لتراجع المجتمع وتخلفه.

تهيمن الثقافة الدينية على مجتمعاتنا فهي تقريبا المحتوى الرئيسي والمصدر الوحيد للمعرفة والاطلاع والحكم على الأمور، وهي الحاضرة المؤثرة بقوة على نهج التفكير والحياة والسلوكيات، حتى تكاد تنعدم أي ثقافة أخرى في ظلها، ليطغى اللون الواحد على كل الألوان في ثقافتنا بحيث تبدوا وكأنها تفتقر للتنوع والتلون والتعددية، والتفاعل والتواصل فيما بينها وبين الثقافات الأخرى المتنوعة المختلفة، وترفض مجتمعاتنا بثقافتها أي نقد فكري، معتبرة إياه نوع من أنواع التهجم على ثوابتها وتقاليدها، كما ترفض التغيير منتهجة أساليب التلقين والترديد وتقبل الأمر الواقع دون مناقشة أو تفكير أو تنشيط للعقل النقدي، ودون أي تجربة او معاينة او تمحيص، مما يؤدي لطمس الإبداع والتفكير والإنتاج.

هي ثقافة منغلقة على نفسها فتخشى التطور وترفض التغيير، وتعجز عن مواجهة ذاتها بالحقيقة التي أصبحت مرئية للجميع، كما تعجز عن مواكبة العصر وتحدياته، رافضة لكل من يخالفها في رؤيتها، فكيف السبيل إلى التطور ونحن لا نكترث لما وصلنا إليه من البؤس والتراجع! لا بد من مواجهة صادقة مع النفس للوصول الى رفض ثقافة الرجعية والاستبداد التي ما برحت أن تزرع جذور الفكر الإرهابي المتمثل فيها، بحيث نتمكن من اجتثاثه والتصدي له ولثقافة الخوف والتقاليد البالية والعادات السيئة، لقد أصبح الوضع لا يحتمل التأجيل أو التميع والتريث، فثقافة الاستبداد لم نعد نراها فقط في النخب الحاكمة أو في المجموعات أو القطيع، فالأمر قد تعدى ذلك بكثير، لقد انتشرت فوصلت إلى الافراد فيما بيننا كما وصلت للسلوكيات والممارسات اليومية والآراء والألفاظ والتعاملات، فبداخل كل منا شخص مُستبد يقوم بممارسة استبداده على كل من تطاله قدرته وإمكانياته وسلطته! فقد تشاهد الكثير من الآباء ممن يمارسون استبدادهم على الأبناء، كما تشاهد المدير أو المسؤول المتسلط باستبداده على الموظف، والموظف كذلك بدوره قد يستبد بموظف أقل منه درجة وظيفية، وكل منا قد يمارس التحكم والهيمنة والتسلط بمن هم أقل حظا منه وأضعف، وفي هذه الظروف التي نعيش بها الصراعات والفقر المدقع والتهميش والتعصب والجهل، فان واقع المرأة هو الأكثر بؤسا وتخلفا على الإطلاق، إذ لا زالت النساء في مجتمعاتنا تعاني استبداد المجتمع الذي لا يزال حتى الآن يحتفظ بنظرته الدونية لهن!

 ويستمد الفرد استبداده من منتجات هذه الثقافة المتخلفة بما استقاه من الاستبداد والقهر والإكراه والتجبر والظلم، مما يقودنا إلى التخلف عن مواكبة المجتمعات المتحضرة، ومن أسوأ ما تحمله ثقافتنا هو عنصريتها القميئة لكل مختلف عنها سواء بالدين أو العرق أو اللون أو الجنس، ورفضه أو اضطهاده وعدم احترام حريته في اختيار معتقده الديني، وها هو الصراع البشع الذي يدور بين السنة والشيعة في بعض البلاد العربية لا يزال يَمثُل أمامنا ولا سبيل للنجاة منه سوى تنحي هذه الثقافة المهترئة جانبا، وإحلال ثقافة بديلة، تنويرية اجتماعية علمية متحضرة ذات مرتكزات ورؤى فكرية واخلاقية، تواكب متطلبات العصر والتقدم الإنساني والعلمي، بحيث تتصدى لكل هذه الظواهر السلبية وغيرها، وتغوص فيها بحثا عن جذور المشكلة وأسبابها لإيجاد الحلول الممكنة والسبل التي من شأنها أن تكرس وتنشر ثقافة تقبل الآخر والاعتراف بوجوده وحقوقه، كما تدرب مجتمعاتنا على أساليب الحوار البناء بشكل عقلاني منطقي على أسس الاحترام والتقدير، وتحث على الإبداع العلمي والفكري، فكل ما نمر به من صراعات وتطرف ونزاعات داخلية، ما هو إلا نتيجة طبيعية لمفاهيم إقصائية الآخر وتأثيره السلبي علينا بما أنتج لنا من منهج تفكير وسلوك متدهور أدى لانحطاط وانهيار إنساني خطير! لذا علينا بإصلاح وتطوير ثقافتنا أولا، وذلك للابتعاد عن كل ما يحط وينال من القيمة الإنسانية للإنسان.

يَذكُر عبد الرحمن الكواكبي وهو أحد مؤسسي الفكر القومي العربي، الذي اشتهر بكتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) حيث قال: إن المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة، إلا بأعوانه من أعداء العدل وأنصار الجور، الاستبداد أشد وطأة من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السيل، أذل للنفس من السؤال!

منذ قرون عديدة ونحن نغط في سبات عميق ونحمل على كاهلنا تراث السلف والاجداد ونقوم باجتراره صباح مساء، وكأننا قد توقفنا عن انتاج الحياة، تمر السنوات فيتقدم البشر ونحن كما نحن لا نقوم إلا باستهلاك ما ينتجه الغرب الكافر بحسب تلك النظرة المتطرفة المنتشرة لدى البعض! والخطر الحقيقي إنما يكمن في فكرنا وثقافتنا البائسة، تلك التي قيدت عقول البشر ومنعتها من السير قدما نحو التقدم ومجاراة العصر.

نحتاج اليوم إلى الكثير من الشفافية والمصداقية والشجاعة لأجل التغيير المطلوب والتركيز على التنوع وتقبل الاختلاف، فهناك الكثير من المفاهيم السلبية المترسخة في ثقافتنا مما يجب علينا حذفها وتركها بعيدا دون العودة اليها وذلك لتنقية أفكارنا وسلوكياتنا وممارساتنا الحياتية من شوائبها التي لطالما تصادمت مع منظومتنا الإنسانية، فالوضع الصعب الذي نعيشه اليوم يتطلب منا وقفة حقيقية، وأعتقد بأن الأمور لن تكون مستحيلة في حال تضامنت وتضافرت وتكاثفت الجهود الواعية المخلصة من الجهات المعنية بالتغيير، من منظمات المجتمع المدني وإمكانياتها الواسعة بالتغلغل في المجتمعات ودورها في نشر ثقافة الحوار وتقبل الآخر ونبذ التخلف والجهل، وذلك بهدف المضي قدما نحو الأفضل اجتماعيا ومنهجيا، كما أن للإعلام دور مهم ومؤثر في ذلك باعتباره مسؤولاً عن نقل الكثير من الأفكار البناءة إلى الناس، ولا ننسى بأن للفن والأدب الإنساني المتنوع دور فعال في ذلك أيضا، فهو بكل تأكيد من شأنه أن يلفظ تنميط الآخر وإقصاؤه حين تُكَرس جهوده وأهدافه لذلك، بالإضافة إلى الدور الهام للمؤسسات الثقافية من خلال إصداراتها وتوزيعها للنشرات التوعوية والمجلات الهادفة بشكل مستمر وذلك لإلغاء وإبطال الفروق فيما بيننا وبين الثقافات الأخرى.

من حقنا أن نعيش بكرامة واطمئنان على حاضرنا ومستقبلنا، وأن تربطنا علاقات السلام والتعاون مع المجتمعات الأخرى لنشعر بالأمن والاستقرار، لذا علينا أن ندرك بأننا على هذه الأرض نحيا معاً لنتعايش سويا، فعقلية القتل والصراع والتطرف والكراهية، تلك التي تتغذى من الثقافة المظلمة ستذهب بنا بعيدا إلى هناك، نحو دمار شامل للإنسانية جمعاء! كفى حروباً وموتاً وقتلاً باسم الله وباسم الشعارات الرنانة الفارغة التي تفتقر للإنسانية، لننهي كل أشكال التعصب والاستبداد والتطرف، والحط من قدر الكرامة الإنسانية وقِيمها، كفانا رعونة وحماقة وقهراُ وموتاً، فنحن لا نريد المزيد من المقابر الجماعية!..

- صحيفة رأي اليوم 

الثلاثاء، 24 يناير 2017

في زمن الأقنعة وتعدد الوجوه من حولنا !

تحولات وتغيرات عديدة نعيشها اليوم في المنظومة القيمية لِبُنية مجتمعاتنا وتركيبتها، لتطغى بذلك كثير من التناقضات والأزمات الاجتماعية وبعض الظواهر التي تسببت بإرهاق الإنسان العربي وإنهاكه، من أهم تلك الظواهر السلبية التي توغلت في كل المناحي الحياتية والمعاملات والعلاقات وباتت تتفشى فيما بيننا لدرجة من الخطورة بأنها أصبحت مألوفة عادية، مما يؤثر على سلوكياتنا وتصرفاتنا بما ينعكس علينا بصورة واضحة تؤخر من تقدم مجتمعاتنا وتطورها، وهي ظاهرة النفاق الاجتماعي الخطيرة التي باتت الطريقة المتبعة بكل أسف، لنيل المطلوب والمقصود من رضى الناس وقبولهم وإعجابهم، للحصول على المصالح الخاصة والمراتب العليا، من خلال ارتداء وتبديل الأقنعة بحسب ما تقتضي الحاجة على حساب الأخلاق والقيم التي لم تعد ضمن قائمة الحسابات في واقع نعيشه ولا نحسد عليه، إذ لم نعد نفرق بين الصالح والطالح، ولم نعد نصدق الصادق لكثرة الكذب من حولنا، بات اللئيم يحل محل الكريم، واضمحل الصدق متراجعا ليغدو عُملة نادرة، وأصبحت المجاملات لكثرتها تهدد نسيج المجتمعات وتماسكها، يتلونُ البشر فيظهِرون عكس ما يبطنون لتبدو الآراء خلافاً للقناعات، تتقرب الناس وتتودد متلاعبة بالكلمات والألفاظ متقنة فن النفاق، يبيعون ما لا يملكون من بضاعتهم الرخيصة من الشعارات الرنانة والمشاعر الكاذبة بشتى الطرق ضاربين عرض الحائط بكل القيم الإنسانية النبيلة، لإجادة إنفاق ما لا يمكن إنفاقه من سلع باخسة عبر المجاملات وتمجيد ما لا يستحق التمجيد واحترام من لا يستحق الاحترام والولاء المزيف والتهاني الكاذبة، والوقاحة المجمّلة المقنعة بالوجه المتغير المتناسب مع الوقت والظرف والموقف، وذلك لتحقيق بعض المصالح الخاصة على حساب المبادئ والأخلاق، لترجح كفة المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، فينعكس بذلك انطباعا ومظهرا سلوكيا سلبيا عن الانسان العربي وشخصيته، وليتراجع كذلك مستوى الذكاء الاجتماعي بجوهره القائم على القيم الإنسانية والمعايير الأخلاقية والسلوكيات الناتجة عنها والتي تقيم الفرد وتحدد مدى قبوله الاجتماعي وتسهل عليه تواصله بين أفراد مجتمعه والانخراط به، مما يساهم في تقوية المجتمعات وتماسكها وتضامن أفرادها، حينما تتغلب المصالح العامة على المصالح الشخصية الضيقة.

وفي غياب العدالة الاجتماعية يبرز التخلف في مجتمعاتنا ليؤثر على استقرارنا وترابطنا ويفكك نسيجنا الاجتماعي، لنعيش حالة من الاستلاب الثقافي، فيسود خطاب الكراهية ويمتد العنف الذي ينخر بكيان مجتمعاتنا وأبنائها! أصبحنا اليوم نكفر بالجوهر ونؤمن فقط بالمظاهر البراقة الخادعة، نرفض الصدق ونقيم الأمور ونحكم عليها وعلى المواقف وأصحابها بسطحية فارغة ومن خلال المظهر وليس الجوهر.

وعادة ما ينتهج المنافق أساليب المراءاة والكذب والسكوت عن الخطأ والتملق للوصول إلى الهدف، ودائما ما نلاحظ مجموعة من المنافقين المحيطين بمسؤول ما أو أي شخصية مرموقة، ممن يجيدون التلاعب بالكلمات التي تزخر بالمجاملات الكاذبة والتمجيد والتهنئة والترحيب والتبريك أو المديح والشكر أو الولاء وغيره من صور النفاق وتزييف الواقع، وكل ذلك لأجل تحقيق مآربهم الخاصة فقط، كما نلاحظ بأن الكثير من الناس قد يختلط عليه الأمر، فقد يظن بأن من الذكاء الاجتماعي ومهاراته، اتقان فن النفاق الاجتماعي واعتباره ضربا من ضروب الشطارة، ليصبح كل من يتبع الصدق في تعاملاته وعمله وافكاره وسلوكياته وكأنه يبتعد ويشذ عن القاعدة السائدة!

حتى اليوم لم تتوصل قدرتنا الهشة الضعيفة، إلى تشخيص الحالة وعلاجها أو حتى الوصول إلى درجة ما من الوقاية للأمراض الاجتماعية الفتاكة، وها هو النفاق يغزو حياتنا وعلاقاتنا وتعاملاتنا وأعمالنا وتصرفاتنا وحتى في نوايانا التي كثيرا ما تتجرد من إنسانيتنا، لينتشر بذلك الظلم والفساد والقهر نتيجة لذلك.

نعم يتفهم الجميع بأن من حق كل إنسان أن يحقق طموحاته وأحلامه التي طالما كان يصبو إليها، لكن ليس من حقه أبدا أن يصل إلى أهدافه بطرق غير مشروعة أو بالنفاق والكذب والمراوغة أو اقتناص فرص الغير وحرمانه منها أو الاستيلاء عليها وأخذها دون أي وجه حق.

فإلى متى سنظل نتجرع مرارة الألم والحزن والذهول لاصطدامنا بواقع مؤلم لما يظهر لنا من الحقائق التي طالما اختبأت خلف وجوه مزيفة كاذبة، وإلى متى كل تلك القلوب المليئة بالنفاق من حولنا!؟ ألا نحتاج جميعا لوقفة حقيقية جادة، والكثير الكثير من الصدق والنوايا الحسنة لمجابهة هذه الآفة ومحاربتها؟ دعونا نتحرى صالحنا العام، ولنجعل مصلحة مجتمعاتنا والانتماء إليها فوق المصالح الشخصية والمنافع الآنية المحدودة، وذلك لاجتثاث هذه الكارثة الاخلاقية الاجتماعية التي هبطت بمستوياتنا الإنسانية الى الحضيض.

- صحيفة رأي اليوم 

الأربعاء، 18 يناير 2017

المثقف العربي ومشاعر الاغتراب ..

يعيش الإنسان العربي العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية الخانقة التي تؤثر بشكل مباشر على جميع مناحي حياته الاجتماعية والثقافية، ولا يخفى أيضا ما نعيشه من حالة ركود وجمود فكري واضح كنتيجة حتمية لكل ما ذُكر، وما نتج عن ذلك من أزمة ثقافية جسيمة تمر بها مجتمعاتنا العربية ترافق ما نشاهده في هذا الوقت العصيب من تشتت وتفتت، ودمار وصراع ونزاعات. وفي كَنَف كل هذه الظروف القاهرة والاستثنائية (اقتصاديا وسياسيا، اجتماعيا وثقافيا) ما أحوجنا اليوم إلى تعزيز حالة الوعي والاستماع إلى أصوات وآراء الكثير من المبدعين والمفكرين والمثقفين العرب وأصحاب القلم والتأثير، في مختلف القضايا الكونية والأخلاقية والإنسانية، وطرح رؤيتهم الفكرية لخطوات إصلاحية قد تمهد الطريق نحو التغيير البنّاء والتخلص من كل ما يتسبب في تراجع مسيرتنا النهضوية.

وهنا لا بد أن ننوه بأنه من الخطأ أن نوجه اللوم إلى المثقفين والمفكرين والمبدعين، وأن نحملهم وحدهم مسؤولية النهوض الفكري والثقافي بالمجتمعات ودفعها على مواجهة التحديات المحيطة بها، فهي مسؤولية جماعية نتحملها جميعا كأفراد ومؤسسات، فلا بد وأنهم قد تأثروا أيضا بهذا الواقع الصعب في حياتنا ابتداء من حكومات دكتاتورية وثورات وصراعات، والكثير من الفتن والظروف الاجتماعية القاسية كالفقر والبطالة والجهل والتأخر العلمي والعادات والتقاليد البالية التي تحاصر المثقف العربي بتخلفها، وتشعره بالاغتراب عن محيطه وتدعوه للتقوقع والانعزال أو التفكير الجاد بالهجرة والابتعاد عن كل هذه الظروف السلبية حتى يستطيع الالتقاء بنفسه والانفراد بها بعيدا عن كل تلك الأزمات المتعددة بملامحها وجذورها، بما فيها من انعدام للحريات ورفض التعبير الحر ومقاومة التغيير، كل ذلك يدفع بمشاعر الغربة للتوغل عميقا في دواخل المثقف وروحه حين يلمس فرق التفكير والنظرة للأمور فيما بينه وبين مجتمعه الرافض للتغيير بكثير من الحجج الواهية كالعيب والحرام أو الممنوع، وليجدهم تارة يتحججون بالدين وبعض النصوص التي تحرم أو تحلل موقف ما، وتارة أخرى بالعادات والتقاليد البالية التي تُصنّف من خلالها النظرة للأمور والحكم عليها وعلى أي مرغوب أو مطلوب أو مرفوض! ليتسبب كل ذلك الضغط الذي يعيشه المثقف العربي بقطع العلاقة فيما بينه وبين مجتمعه بما يجعله يفقد حراكه تدريجياً وحضوره وتأثيره المطلوب، فهو بالتالي سيتجنب التعبير عن أفكاره ومفاهيمه التي تصطدم مع معتقدات مجتمعه السائدة مما يدفع به للتراجع بسبب ردود أفعالهم التي توهن من عزيمته وتتسبب له بالإحباط! فقد يُكَّفَر المثقف أو يُخَوَّن أو يتعرض للاضطهاد أو التنكيل، مما يدعوه للهجرة إن تمكن منها، تاركا خلفه كل الجهل والأفكار الهدامة والانغلاق وتقييد الحريات وقمع الأفكار وكل الانتكاسات.

فكيف إذاً للمثقف أن يؤدي دوره على أكمل وجه في ظل القمع السائد والاضطهاد، بما لا يؤثر على معنوياته ودوره ونشاطه وإنتاجه وإنجازاته ؟!

إلا أنه وبالرغم من ذلك يبقى للمثقف دوره الخاص في مواجهة كل ما ذكر من تحديات، فإن لم يكن المثقف والمفكر والمبدع سيعيد إحياء الأفكار الخلاقة لنسج مفاهيم جديدة تعيد ترتيب الأولويات والعلاقات مع الواقع الراهن، إن لم يكن هو فمن سيفعل؟ وإن لم يكن هو من سيساهم في دفع التغيير المطلوب وانتهاج المسارات الحديثة في التفكير وواقع السياسات لإعادة صياغة الواقع بكل الطرق المتاحة فمن سيكون؟ لذا لا بد للمثقف رغم كل الظروف من أداء دوره الحراكي والمجتمعي المنوط به لتجاوز كل حواجز العجز والعمل على إزالتها وذلك لخلق أفكار خلاقة تُشَخص الحالة الراهنة وتحللها بهدف إيجاد بعض الحلول التي قد تؤدي للإصلاح الاجتماعي او الاقتصادي او السياسي بما يشكل البداية لحراك المثقف الحقيقي وبداية الطريق.

نعم الطريق شائك وطويل، لكن علينا دائما أن نتمسك بالأمل وعلينا أن نتذكر بأن الأهداف كلما عَظُمَت، كلما طالت المسافة والطريق، لذا فإنه يقع على عاتق المثقف الكثير من المهام فهو الجندي الأول في معركة الثقافة والتوعية والتنوير، وهو ضمير عصرنا الحي إذا ما تمكن من البقاء صامداً نقياً، مُحافظاً على بوصلته الأخلاقية يحميها من كل شوائب الأيديولوجيا السياسية والدينية متمسكاً بإنسانيته وأخلاقه، متواضعاً متعاطفا يقف دائما إلى جانب كل مقموع ومقهور ومُضطَهد على هذه الأرض، وهنا عليه أن يعمل من خلال إنتاجه وحراكه الثقافي، قلمه وصوته، وكل ما يمكنه من الوصول إليه من وسائل ومواقع مؤثرة، وذلك للتنسيق فيما بين المعاني الإنسانية والفكرية التي يؤمن بها وبين الخطاب الحقوقي للإنسان، مدافعاً ما استطاع عن كل المبادئ الإنسانية بما فيها العدالة والحرية مبتعداً عن مصيدة التحزب، فلا ينحاز إلا للإنسانية والأخلاق السامية لإنصاف الفئات المهمشة المحرومة.

 وفي خضم هذه الظروف الحالية عليه أن يتجاوز عزلته وتلك الفجوة فيما بينه وبين مجتمعه ليقوم بواجبه المنوط به بما يساهم بالمعالجة الفكرية والثقافية لاجتياز العديد من الصعوبات والمشاكل، الطائفية والمذهبية والعنصرية، التعصب الفكري والثقافي، رفض التغيير والتطرف، الدعوة إلى روح المواطنة والانفتاح على الثقافات الأخرى وتقبل الآخر، بما ينتج عن ذلك من تغيير إيجابي حقيقي يتناسب مع متطلبات الثقافة ليتمكن المثقف من الإنتاج والإبداع والتحرك بكل حرية، دون أن تخنقه مشاعر الاغتراب في الوطن وتلك المنظومة الفكرية الصارمة المستبدة التي ما أنتجت لنا سوى حالة من الانفصام الشديد فيما بين المجتمعات وأبنائها من المثقفين .

- صحيفة رأي اليوم 

الجمعة، 13 يناير 2017

نظافة اليد والسلوك من نظافة الذمة والضمير

يعتبر الفساد من أشد المعوقات في طريق التطور وتنمية المجتمعات، فهو الظاهرة الاجتماعية والسياسية السلبية، القديمة الحديثة، المحلية والعالمية التي لا زالت تعيش بيننا وتفتك بنا وذلك لغياب حس الانتماء وتدهور الأخلاق، وإهمال الشفافية والرقابة فنشأت هذه الظاهرة وترعرعت لتغدو بكل قبحها ظاهرة قوية جريئة تفرض نفسها على مجتمعاتنا بصورة نسبية ومتفاوتة ليتم من خلالها انتهاك المبادئ والقانون وبيع الذمم والقيم والأخلاق والمتاجرة بهموم الناس، بما يضر وينعكس بشكل واضح جَلِيّ على حياتنا الاجتماعية ومصالحنا العامة.

الفساد هو عدو شديد الخصومة لاستقرار المجتمعات ونظام حياتها، فهو يتطفل عليها ليقتات على أرزاقها ويمنع رخائها حيث ينمو في قلب الأوطان لينتهك النزاهة والأمان ويعتدي على الحقوق، ويتهدد الجميع بآثاره المدمرة ونتائجه السلبية الخطيرة، فهو يستشري كالمرض في مصالح كثيرة حتى بات من القضايا التي تغلغلت في كل مناحي حياتنا المختلفة.

 هو موجود في كل الأمكنة والأزمنة والمجتمعات، حيث يخترقها عبر سلوكيات أصحابه غير المشروعة، للوصول إلى أهدافهم بكل الطرق والوسائل الملتوية الملتفة على الأنظمة والقوانين الموضوعة، وحيث الغاية تبرر الوسيلة لديهم، فنجدهم يغتصبون حقوق الغير ويحرمون الناس من الوصول إلى أهدافهم أو الحصول على فرصهم المُستحقة، ونسمع تارة عن أولئك الذين يسيئون استخدام مناصبهم ووظائفهم واستغلال سلطتهم ومواقعهم الوظيفية لأهداف ومصالح شخصية، أو نسمع عن استهتار البعض في أداء وظائفهم ومهامهم وواجباتهم أو تجاوزهم لحدودهم، أو من يستخدم المال العام  ويستغله في منافع خاصة او يحاول اختلاسه او الكسب منه بطرق غير قانونيه، وكم سمعنا عن أولئك الذين يسيئون لنفوذهم وسلطتهم الرسمية حيث يستعملونها بشكل وصورة تضر بمجتمعاتهم وصالحها العام ليتم استخدامها مقابل المال او تقديم بعض الخدمات بهدف الحصول على بعضٍ من الامتيازات الشخصية أو المآرب الخاصة!

وعادة ما نجد الفساد مترعرعاً طليقاً حيث يضعف أداء الأجهزة الحكومية أو الأنظمة القانونية وحيث تنعدم الشفافية والوضوح، ولكن من الصعب أن نجده يعيش بكل حرية في المجتمعات التي تتمتع بالديمقراطية والشفافية وتسودها العدالة ويحكمها القانون، حيث تُفَعَّل آليات المحاسبة ولا يعلو أحد على سلطة القانون ولا توجد أي استثناءات ولا مكان للواسطة أو المحسوبية أو الرشوة، ولا تراخي أبدا في تطبيق القانون، فالفساد شر يفتك بأمن المجتمعات وأمانها ويؤثر على تقدمها ويؤخر تنميتها ونهوضها، ويصيب مفاصلها الحيوية ومؤسساتها المختلفة بالعجز عن قيامها بأدوارها الهامة وواجباتها مما يُعيقها عن تقديم خدماتها المفروضة،  لذا على الدول والمجتمعات ان لا تتساهل أبدا مع كل فاسد يهدم وطنه بفساده وأن لا تغض الطرف عن كل مستفيد منه، ويجب الانتباه لمواقع الفساد أينما حلت في أي مكان سواء كان في القطاع العام أو الخاص، والعمل على تغيير هذا الواقع بكل الطرق القانونية المتاحة ومتابعة قضايا الفساد بكل عزيمة وحزم، وتعزيز الرقابة والمسائلة والمحاسبة القانونية على الجميع دون أي استثناء.

نحن لا نريد ان نتداول ونسمع مزيدا من الشعارات فقد أصابنا اليأس والملل منها! فَلِمَ لا تتضافر الجهود ضمن إرادة حقيقية بناءة للقضاء على الفساد ليعيش الإنسان معززاً مكرماً يتمتع بكل حقوقه الإنسانية فلا يسلبه الفساد شيئا منها، وحيث تطبق كل الاستراتيجيات اللازمة ضده وتُطبق القوانين الصارمة في حق كل مخالف وفاسد؟ يجب رفع مستوى الوعي بخطورة هذه الظاهرة الفتاكة، لذا ليتكاتف الجميع ويجتهد كل في موقعه ومكانه لمكافحة الفساد، بالقوانين ووسائل الإعلام وبأقلامنا وأصواتنا وكل ما لدينا من وسائل وقوة وطرُق للحد من انتشاره حتى لا يكون العقبة أمام تقدم الأوطان وبناء المجتمعات.

- صحيفة رأي اليوم

الأربعاء، 4 يناير 2017

هل من صياغة جديدة لهذا العالم المتطرف؟

نعيش اليوم في عالم يفتقد للإنسانية، فكل ما جمعه الانسان عبر الوقت من المعاني السامية للحق والمحبة والاخاء لترتقي به، نراها تغادر عالمنا شيئا فشيئا مضمحلة، ليحل مكانها التسلط والقهر وقوانين البلطجة وأحكامها حيث يأكل القوي الضعيف دون أي إحساس بالذنب! لم تعد القيم أو الأديان بكل ما فيها تشكل رادعا للإجرام والمجرمين فتمنعهم من ارتكاب جرائمهم، بل على العكس أصبحت القيم سلبية فتنعكس على تصرفاتنا، وتزايدت التفاسير الخاطئة لبعض النصوص الدينية لتشجع على قتل الآخر وعدم الاعتراف به كإنسان له حق كامل في الحياة بكل ما فيها، فاستُبحَيت الأرض والإنسان وانتهكت حقوقه وكرامته طوعا لرغبات وأهواء متوحشة لا هم لها سوى مصالحها، فاستُعملت كل الأسلحة التي لا ترحم بصورة تُذهل كل ضمير حي، لِيُباد العباد وتُسحق البلاد، وَهُدِرَت الدماء العربية على مسمع ومرأى من العالم أجمع حيث باتت رخيصة لا قيمة لها!

 نتابع الأحداث جميعا ونشاهدها على شاشات التلفاز عبر معارك غير متكافئة لا تغير من الواقع العربي المظلم ولا تقدم أو تؤخر بشيء ولا هدف لها سوى قتل الإنسان وتدمير أرضه وحضارته لصالح الغير، دون أي اكتراث لحجم المأساة والدمار وتشرد الشعوب أو قتلها، وها هو العالم المتحضر يتفرج غير آبه بما يحصل في البلاد العربية من ويلات وحروب وصراعات وقتل، وإراقة للدماء وإهانة للإنسان وإذلاله، حيث سُلبت شعوبنا أبسط حقوقها من الحرية والعيش الكريم، فماذا تخبئ لنا الأيام في عامنا الجديد هذا (2017) ؟ وهل من صياغة جديدة لهذا العالم المتطرف؟

نتغنى جميعا بحقوق الإنسان قولا دون الفعل، بينما نجد شعوب تقاد إلى التشرد والمخيمات واللجوء! فإلى متى سيبقى هذا العالم بوحشيته مفتقداً لإنسانيته مكرسا البغضاء والحقد والكراهية بين الشعوب التي لازالت تحلم بالانعتاق والحرية؟ وها هو التطرف الديني والفكر المتعصب لم يتركها وشأنها ليحول الكثير من أبنائها إلى مجموعات من القتلة والمجرمين، ويتحول القتل الجماعي كأداة للتنفيس والتعبير عن الكراهية للآخر المختلف، وها نحن نشاهد تنامي وازدياد ظواهر الإرهاب لتصفية الآخر وإعدامه في كل مكان على هذه الأرض ممن ينصبون أنفسهم أوصياء على الدين بصفتهم الأتقياء من المخلصين، حيث يقررون بفكرهم المشوه كل من يستحق الحياة وكل من يستحق الموت، ليقوموا بدورهم بتصفية كل مختلف باعتباره كافر أو مرتد ليستحق الموت! ومن منطلق حرصهم على الدين وتطبيق الشريعة بحسب ادعاءاتهم، فهم يقررون إفراغ أحاسيسهم ومشاعرهم الإنسانية ليتحولوا لمسوخ بشرية لا هم لها سوى القتل والتخريب حيث يتم تبرير سقوطهم الإنساني بعد ذلك بتبريرات وآيديولوجيات دينية تخفي حقيقتهم العدوانية وكرههم للحياة والبشر فيرتكبون كل المعاصي ويتجاوزون إنسانيتهم وآدميتهم وأخلاقهم بالقتل وكل ما أمكنهم من الجرائم! والحقيقة تقول بأنه لا يمكن لأي أيديولوجيا دينية أن تخفي عدوانيتهم ووحشيتهم المطلقة مهما تسترت بنصوص دينية، والحقيقة أيضا تقول بأن كل من يؤيدهم ويتشفى ويفرح لوقوع الضحايا والقتلى في أي مكان في العالم ما هو إلا مريض نفسي ينشر وباء التطرف والكراهية والوحشية والإرهاب، وعلى العالم أجمع أن يتكاتف ليعزله هو وأمثاله اما في مصحات نفسية حتى تتم معالجتهم وإعادة تأهيلهم ليتمكنوا من التخلص من العدائية والإجرام ومن ثم العودة للانخراط مجددا في الحياة كبشر أسوياء أو تتم محاكمتهم وتنفذ فيهم أحكام عادلة رادعة.

علينا أن نلفت إلى أن كل إرهابي بفكره الخارج عن الدين، هو خارج عن كل ما جاءت به الأديان السماوية من السماحة والإخاء وحقن الدماء وحب الخير، حيث يسعى في الأرض فساداً وقتلاً وتنكيلا. قال تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» والنفس هنا تعني كل الأنفس البشرية المسلمة وغيرها، أخيرا إن ما يجري على الأرض هو مؤشر خطير لمستقبل قاتم ما لم تتم معالجته بروح من المنطق والعدالة وتجنب خطاب الكراهية والتشفي والدعوة الى الانتقام، على العالم أن يتخلى عن محاولاته المادية في تحقيق مصالحه الاقتصادية فحسب، فهي ليست أشد أهمية أبدا من الحفاظ على أرواح البشر وأمنها وأمانها واستقرارها وتحقيق العدالة الاجتماعية والالتزام بالديمقراطية، وعلينا جميعا نبذ أي مجموعات طائفية متطرفة متعصبة تحقد على الآخر المختلف فكرا وعقيدة وعرقا وانتماء.

- صحيفة رأي اليوم 

الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

الحوار مع الآخر.. ضرورة إنسانية

من سمات البشر الطبيعية اختلافهم بالأفكار والآراء ووجهات النظر والأذواق والميول وسبل التفكير، وذلك ليتسنى للإنسان أن يعمر الأرض بثراء وخصوبة وتنوع سائراً نحو الحضارة والمدنية برؤية شاملة وأفقٍ أوسع فيعيش حياة أفضل بعيدة كل البعد عن التعصب والتطرف الفكري أو المذهبي أو السياسي أو العقائدي، لذا كانت الاختلافات الطبيعية بين الناس رحمة للإنسان وفضل لا ينكره إلا ذوي العقول المتحجرة، ولا يعرف قيمتها ومعناها إلا من عاش تحت سطوة قهر الأفكار وكبح جماحها.

نعيش اليوم واقع مرير يتمثل برفض الآخر شخصاً وفكراً ووجود، وذلك لاختلافه بوجهة نظره السياسية أو الدينية أو المذهبية أو الطائفية، أو لآرائه الشخصية أو وجهات نظره، وتحولت كل الاختلافات إلى أدوات بيد من فقدوا ضمائرهم وإنسانيتهم ليعملوا على تغيير حياتنا وتبديلها إلى معاناة وعنف متجدد ونزاعات وصراع لتأخذ بذلك ثقافة الحوار بالانحسار حتى اضمحلت، لنجدها مع الأسف اختفت تماما خلال السنوات الأخيرة من حياتنا، فيترسخ غيابها في أذهان الناس ويتجذر في حياتهم بما أصبح واضحاً جلياً في تصرفاتهم وسلوكياتهم كأفعال وأقوال وممارسة يومية عادية، وإذا بالصوت الواحد الرافض للاختلاف يعلو مسيطرا علينا وعلى واقعنا بأن كل مختلف هو خائن أو عميل أو كافر أو متآمر، وبهذا يصبح المختلف مُنتهك ومباح! وهكذا أُعدمت ثقافة الحوار لتغيب عن قضايانا الإنسانية الكبيرة والصغيرة فتحل مكانها صراعات طائفية ومذهبية أو سياسية أو ثقافية واجتماعية، ويمتد الأمر ليصبح خارج السيطرة لنغدو بذلك الوقود والنيران التي تأكل نفسها بنفسها جراء ما نعيش من النزاعات والتشتت والهزائم والحروب.

إن الآراء التي لا تنبعث إلا من الرغبات الخاصة التي تبعد أصحابها عن الحق والعدل لا تؤدي إلا لزيادة التعصبات القومية والعنصرية ، كما أن الغرور والخيلاء أو قوة الإيمان بالفكرة وضعف إعصاب البعض قد يمنعهم من إدراك بعض الحقائق فحينما يكون التعصب للفكرة مسيطرا يبدأ الجدال مكابراً مسيطراً ظناً من أصحابه بأنهم على حق، كما أن التقليد الجاهل للأجيال السابقة والتعصب لآراء الأقدمين غالبا ما يؤدي إلى المشاحنة والمجادلة في غير مكانها إذ يصعب مناقشة من قيد نفسه بقيود من الماضي والأسلاف، كما أن اختلاف المدارك والأمزجة بين الناس، جميعها تؤدي إلى المجادلة والخلافات في غير مواضعها.

والمتابع لأوضاعنا المؤلمة في البلاد العربية منذ سنوات يدرك تماما ويشعر بأننا عشنا ولا زلنا نعيش حالة من تسلط الفكرة الواحدة التي تطغى على كل الأفكار وتسلط الرأي الواحد الذي يطغى على كل الآراء، واللون الواحد الظاهر على كل الألوان، هذا ما دفع بالطغيان والاستبداد لانتهاك العدالة والقانون وتجريم كل مختلف باعتباره خارج عن رأي المجموعة أو السلطة أو القطيع، مما صَعَّدَ لغة العنف ودفع بأوطاننا نحو الهاوية!

فكيف لنا اليوم بعد كل ذلك من إزالة تلك الآثار العميقة في نفوس الناس وحياتها! من هنا يتبين لنا ضرورة الدعوة لنشر ثقافة الحوار والتمسك بها كحل واحد ووحيد لكل تلك النزاعات والصراعات من حولنا والتي حولت حياتنا إلى جحيم مقيم، فالحوار البناء وحده ما يكفل للإنسان وضع كل الاختلافات والخلافات جانباً وذلك لصيانة الأرواح ووقف انتهاك الحرمات وسفك الدماء ليعم السلام وينتشر الأمن والأمان وفكرة تقبل الإنسان الآخر المختلف، بما يضمن لمجتمعاتنا الإصلاح وتجنب الفساد حتى يتم استغلال كافة القدرات والإمكانيات لتنمية الأوطان والارتقاء بها.

علينا أن نعترف بوجود الإنسان الآخر أولاً، فلم توجد هذه الحياة وتُخلَق ليتم تصميمها على مقاييسنا الشخصية فقط أو بحسب أهوائنا وأفكارنا! لندرك بأن هناك الكثير غيرنا من الناس يعيش على هذه الأرض، يحمل ذات الصفات الإنسانية التي نحملها وله ذات الحق بالحياة التي لنا وهو يحمل آمالا وأحلاما كالتي نحملها ولديه كثير من الطموحات كما لدينا، يشعر ويتألم كما نشعر ونتألم، يحلم بمستقبل واعد لأطفاله كما نحلم نحن بذلك، يحب الحياة كما نحبها ويتمنى الخير لوطنه وأهله كما نتمناه نحن أيضا، لذا علينا بالتآخي والتعايش مع الجميع ولندرك بأن لهم كافة الحق في إبداء الرأي ووجهات النظر والتعبير عنها تماما كما لنا، ولهم أيضا كامل الحق في ممارسة عقائدهم وطقوسهم الدينية بكل حرية كما لنا، هذا ما نصت عليه كل المواثيق الدولية والإنسانية عبر التاريخ. ينبغي تأكيد حق الاختلاف فعلا وممارسة وذلك من خلال تربية أنفسنا وأبنائنا والأجيال القادمة على نبذ الجهل والتخلف والانغلاق وتشجيع الجميع على تقبل الآخر والاختلاف بصفته سمة طبيعية من السمات البشرية التي تثريها بكافة ألوان المعرفة وأصناف الإبداع، فالإنسان المتحضر هو الذي يتفاعل مع الاخرين مدركاً أهمية الاختلاف واحترام الاخر رأيا وفكرا وعقيدة دون التقليل من شأنه أو من فكره أو من عقيدته.

من الجميل جدا ان نتحاور دون أن نهمش الآخر أو نعرضه للترهيب أو الاقصاء، من حق الانسان أن يكون مختلفا عن غيره وليس من الضرورة أن يتشكل ويتلون كما يُراد له أن يكون، نعم لثقافة الاختلاف لا الخلاف، ونعم دائما لثقافة الحوار حيث تجمعنا الإنسانية ويقربنا التفاهم البناء نحو أجواء تسودها المحبة والاحترام ..

- صحيفة رأي اليوم

الاثنين، 19 ديسمبر 2016

صباح بشير: أين أنتم يا دعاة السلام ؟

رغم تعاظم الوضع الإنساني جراء الأوضاع المزرية التي يعيشها الإنسان المظلوم المغلوب على أمره في سوريا، إلا أننا وحتى الآن لم نشهد أي محاولات حقيقية لوضع حلول منطقية لوقف تلك الحرب رغم فداحتها وفظاعتها، ومع كل الصور اليومية والتقارير الإخبارية للأحداث المفجعة والانتهاكات الإنسانية بحق الإنسان هناك، إلا أنها لم تحرك ساكناً في نوازع الخير داخل النفوس البشرية للوصول إلى حلول تضمن السلم والأمان، مما يثبت أن ما يحدث على تلك الأرض هو الأكثر ألما ووجعاً على الإطلاق! إنه لمن المحزن جدا أن يموت أطفال سوريا بردا وجوعا بعد أن كان يحتضن هذا الشعب كل نازح ولاجئ فر هارباً إليه طالباً الأمن والحياة.

منذ فترة قررت أن لا أتابع النشرات الإخبارية التي تعرض على شاشات التلفزيون حتى لا أصاب بالاكتئاب! فالصور ومناظر القتل والدمار وبحور الدماء والأشلاء المتناثرة هنا وهناك، كفيلة لأن تقتل في الإنسان روح الأمل وتفضي به إلى اليأس والحزن العميق والقلق والإعياء النفسي والجسدي، فكيف للإنسان السوري المسكين الذي يعيش في خضم هذا الواقع المأساوي الأليم؟ أليس من العار أن نطأطئ رؤوسنا غير آبِهين بما يحدث ويجري للإنسان هناك!

بيوت مدمرة، نكبات وانتهاكات، تهجير الملايين من البشر، آلاف الجثث البريئة، وأطفال يشردون في حرب ضروس بكل ضراوة الوحوش غدو ضحايا ضعفاء لا ذنب لهم ولا حول ولا قوة، شعب لم يرى منذ أعوام سوى مشاهد القتل والدمار وآلاف الجرحى والثكلى وبيوت العزاء! تحولت بلادهم إلى ساحات من الدم والمقابر لتثبت للإنسانية جمعاء مدى استباحة الكرامات وإهدارها، وكيف تموت القيم وتنهار الأخلاق! فأي كلام قد يُكتب ليعبر عن حجم المأساة وحقيقة الألم وذلك الوجع الكبير؟! إذ كيف لنا أن نفهم شعور طفل تشرد وفقد عائلته، بيته، إخوته أمه وأبيه بعد أن عايش كوارث مؤلمة قد تكون الأكثر همجية على الإطلاق!

لقد غير الصراع الدموي الحياة هناك، فالطفل قد غادر مدرسته متشرداً متجهاً نحو المخيم بعد أن سكنت أذنيه أصوات الرصاص والقصف! هو لا يلعب كبقية الأطفال في العالم، لقد غادر ساحات اللعب منذ سنوات بحثاً عن الفُتات، حيث فتك به الجوع والضعف والمرض، دُمِر منزله أمام ناظريه وشاهد القتل والإعدام والرجم، صغيرا عاش معنى اليتم، اغتيلت طفولته مبكراً تاركةً آثارها النفسية المريعة! أو أصبح من ذوي الإعاقة جراء الحرب، تلك المشؤومة التي لم تسمح له بمشاهدة الحياة أو التعرف عليها إلا من خلالها، فكيف يكبر هؤلاء الأطفال مع كل هذا الدمار والقتل والعنف وقد أصبح الألم مرافقاً لهم مشوٍهاً لنفسياتهم وتاريخهم وأرواحهم البريئة، مؤثراً بقوةٍ وصرامة على مستقبلهم ومسار حياتهم، وكيف لذلك الصغير أن يستوعب أو يتصور بأن صديقه ورفيق طفولته قد اختطفه الموت عنوة من أحضان البيت والأسرة مُلحِقاً إياه بأقرانه في عتمة القبر! فما ذنب أولئك الأطفال الذين يموتون قهراً وألماً وحرمان.

نساء ورجال وَدَّعوا بلادهم وبيوتهم هربا في البحر نحو المجهول، فيتكالب عليهم الموت ليقتلهم غرقاً وكأن القدر يلاحق بهم مسابقاً إياهم على الحياة. مشاهد موجعة لا تفارق أصحاب الضمائر الحية، وصور تقشعر لها الأبدان لا تمت للإنسانية بصلة. تُرى كم سيصمد البشر ويحتمل الشجر والحجر كل هذه المعاناة البشرية اللاإنسانية؟ أنا لست محللة سياسية ولا أدعي بأن الصورة لدي مكتملة واضحة، لكني لا أفهم كيف يصل الوضع إلى هذه النقطة المفزعة المروعة!؟ فعندما تغيب الحلول السياسية الواقعية المنطقية، فلا نهاية حقيقية لكل هذا الصراع والنزاع، نحن نعلم بأن الحلول الجذرية لهذه الأزمة الإنسانية لا تكون إلا بقرارات سياسية حاسمة مصيرية، وحتى اليوم لم نشهد أي بشائر تلوح في الأفق، فهذه الحرب العدمية التي قتلت روح التسامح وزرعت الحقد في النفوس وتعالت فيها مطالب الثأر والقتل، قد أصابت الجميع بالعجز بما فيهم دعاة اللاعنف والسلام حول العالم!

أخواتي وإخوتي في الإنسانية، كلنا بشر، لا تنتقصوا من كرامة أخيكم الإنسان وإنسانيته تحت مسميات القومية أو الانتماء أو الدين أو التوجهات، لا تستبيحوا دماء الآخرين لذات الحجة، لا تتركوا انتماءاتكم وتحزباتكم ومواقفكم السياسية أو أديانكم تتسبب في التفرقة والنزاع واعتماد التعصب والتطرف كنهج وأسلوب حوار، فكوا قيود ضمائركم ووثاقها، ولا تستبيحوا القتل لخدمة أفكاركم أي كانت الفكرة.

أخيرا.. هذا نداء باسم ملايين المستضعفين والأبرياء وهذه دعوة حارة إلى كل دعاة السلام في كل مكان، اعملوا واجتهدوا بكل ما فيكم من صدق وإخلاص، وذلك لتحقيق حلم السلام والأمن والأمان، فأين أنتم يا دعاة السلام؟

- صحيفة رأي اليوم

الاثنين، 12 ديسمبر 2016

صباح بشير: التغيير فيما بين الرفض والقبول

كان الإنسان دائم الاجتهاد والعمل بإرادةٍ وعزمٍ وتصميم، على تحسينِ واقعه وظروفه الصعبة ليحقق الراحة  التي يطمح إليها وحياة كريمة له ولمن حوله، كان ذلك وسيظل ما يضمن بقاء المجتمعات واستمرارها ونموها عبر ذلك التغيير الذي يلحق بها خلال عملها ومسيرتها نحو التقدم، وهذا ما يعتبر من الميزات الهامة التي تختص بها المجتمعات البشرية عبر حركة التغيير الاجتماعي التي ترافقها طريقها نحو التطور الدائم مما يحسن حياة الإنسان وأوضاعه، ويخلق له الأفضل لظروف حياتيه تتناسب مع كل المستجدات والتغييرات العلمية والثورة الصناعية والتكنولوجية التي نحياها اليوم.

ويتمثل أي تقدم اجتماعي عبر ذلك التغيير الذي يجوب المجتمعات حاملا معه الكثير من التطورات في المفاهيم والأفكار التي تظهر عليها ، وعادة ما يرتبط التغيير الاجتماعي بالتغيير الفكري الذي يعمل على تثبيت التحولات الاجتماعية عبر اكتشاف المجتمعات للكثير من الأمور الحديثة التي تختلف اختلافا جوهريا عن كل ما اعتادت عليه وكان معروفاً مألوفا لها في السابق، مما يدفع بكثير من العادات والممارسات للسير في طريقها نحو التجدد، ليغدو ما كان مرفوضا في السابق مقبولا ومتعارفا عليه اليوم، كالتغيير الواضح في طبيعة العادات التي تسير وفقا للظروف المحيطة بها، والممارسات اليومية العادية في التعاملات والسلوكيات المختلفة وغيرها الكثير من التغيرات التي طرأت على المجتمعات والأفراد.

تمتاز المجتمعات بطبيعتها المتغيرة، فكل جيل يأخذ من الجيل السابق جزءا من ثقافته وما يتناسب مع طبيعة ظروفه وحياته، كما يجتهد بإضافة ما يناسبه من تغييرات جديدة للانسجام مع واقعه ومحيطه وكل المستجدات من الوقائع الاجتماعية المختلفة ، وبالرغم من ذلك إلا أن مجتمعاتنا لا زالت تقاوم قسماً من التغيير وترفضه متخوفة منه، لتخسر بذلك الكثير من إمكانياتها وقدرتها على السير قدماً نحو التغيير المطلوب الذي تحتاجه لتحدي كل الظروف والمستجدات التي تواجهها، فتقف عاجزة عن التنافس أمام المجتمعات الأخرى، وذلك لمعاناتها من النقص الحاد في كفاءتها، مما يؤدي لتخلفها وتأخرها عن الوصول لِما وصلت إليه تلك المجتمعات التي سبقتها بالتقدم ومواكبة النهضة العصرية والعلم والمعرفة. وفي أحيان أخرى يُقاوِم التغيير عبر أفرادها وجماعاتها، خاصة تلك التي تمتلك قوة أو ثروة أو نفوذ، بحيث تخشى التغيير وترفضه خوفاً على ثروتها ونفوذها من هذا التغيير والمجهول القادم. كما أن إصرار مجتمعاتنا المُحافِظَة بطبيعتها على الوضع الاجتماعي المألوف، وانتشار التخلف الثقافي والفكري كل ذلك يتسبب بتأخرنا من اللحاق بمسيرة التقدم، ونلاحظ أيضا ظاهرة التعصب والتمسك بالواقع الموجود المتحقق عبر انتشار عادات وتقاليد متعلقة برواسب اجتماعية من الصعب الخروج من قوقعتها. معيقات أخرى تواجه التغيير والتقدم ألا وهي التقسيمات الطبقية والبيئية والاختلافات العقائدية وهي طبيعية جدا، إلا أنها تؤدي لانقسام في الآراء ووجهات النظر حيث يناسب التغيير بعض الفئات بينما نجد فئات أخرى لا ترتأي فيه ما يحقق تطلعاتها أو مصالحها فترفضه وتقاومه بشدة.

ويرتبط مدى تقبل التغيير لدي الافراد بمستواهم التعليمي والثقافي، ففي حالة الرفض فإن الأسباب عادة ما تكون متعلقة بخوف شديد من ذلك المجهول المسمى بالتغيير، مما يؤدي بمجتمعاتنا إلى ركود ثقافي وحضاري بتنا جميعا نعيشه، نلمسه ونعاني منه .

 يطال التغيير كل شيء في حياتنا وسواء قبلنا به أم رفضناه فإن التغيير حاصلٌ لا محالة، حيث تكون نتائجه عادة غاية في الأهمية بما ينقل المجتمعات من حالة الركود إلى حالة أفضل من الحركة والتفاعل والاتصال، بالطبع هذا في الحالة الإيجابية للتغيير المقصود ، حيث يسير ضمن التوجهات والاتجاهات والاحتياجات المطلوبة بما يشمل كل المجالات المادية والمعنوية في حياتنا الاجتماعية، ليضفي تحسناً ملحوظا على ظروفنا الحياتية المختلفة وينعكس على الممارسات والسلوكيات المجتمعية فتتحسن الصورة الثقافية للمجتمع وترتقي به لما طرأ عليها من تغيير إيجابي فعال في الأفكار والمعتقدات والقيم والمعايير، وما يرتبط بهذا التغيير من نمو في النضج العقلي والأخلاقي والوجداني للإنسان.

قد لا تدرك مجتمعاتنا بأن التغيير هام جدا وضروري لتطوير أساليب التفاعل مع نشاطات الحياة المختلفة ووقائعها، وذلك للتكيف معها ومع كل المستجدات العلمية التي تنعكس نتائجها على حياتنا فيتحقق الاستقرار المطلوب ونتمكن من تلبية كل المتطلبات والاحتياجات المستجدة اللازمة للأفراد والمجتمعات، حيث يساهم التغيير في نشأة وتطوير العلوم الحديثة وكل الدراسات والأبحاث الإنسانية التي تحافظ على الانسان وتضمن له النمو والإرتقاء والتقدم.

- صحيفة رأي اليوم 

الاثنين، 5 ديسمبر 2016

صباح بشير: روح المواطنة وغياب مفاهيمها

كانت ثقافة المواطنة ولا تزال من الثقافات الهامة المؤثرة بشكل إيجابي فعال على كافة المجتمعات، فمن خلال هذه الثقافة تتأكد خصوصية المجتمعات وانتماءات افرادها، كما تتعزز الوحدة بين أبناءها وتتحرك مساراتها في اتجاهات إيجابية بما يُنمي قيم العدل والمساواة فيما بينهم ويشجعهم على المشاركة في الشؤون العامة والمساهمة فيها. وهكذا يكون الحال معكوسا في حال غيابها، كما يحدث الآن في مجتمعاتنا العربية بكل أسف! إذ تظهر كلمة المواطنة وكأنها كلمة شاذة غريبة ودخيلة على ثقافتنا الحالية، ويبدو أن هذا المصطلح في أبعاده الاجتماعية والثقافية لدينا غير كافٍ على المستوى الذي يشكل وعياً كاملاً به بما ينعكس على قيم الفرد وسلوكياته التي تعبر عن حبه لمجتمعه وانتمائه لوطنه .

لا يخفى على أحد بأننا نعايش اليوم حالة من الغياب التام لهذا المفهوم -المواطنة- عن قيمنا الوطنية والأخلاقية مع فقدان المناخ الإنساني الذي يفرض احترام الإنسان وحقوقه ، ومع انحسار قيم العدالة والمساواة وحرية التعبير والاعتقاد ، وعدم توافر الفرص المتكافئة أمام مختلف أبناء المجتمع الواحد بحيث تؤخذ في الحسبان دائما انتماءات المواطن السياسية ومستواه الاجتماعي وروابطه الدينية، كل هذه الأسباب مجتمعة تقف حائلا أمام مجتمعاتنا دون تحقيق أدنى مستويات التنمية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية .

ان من اهم العوائق التي تعترض  ثقافة المواطنة ومبادئها وتحول دون تبنيها ، هي فكرة الهويات الأثنية والدينية أو الحزبية أو الطبقية التي ترتب الناس وتصنفهم وفقاً لها، وبناء عليه تفرض هذه الفكرة رؤيتها وأساليبها في التعامل مع جميع الهويات بكل أنواعها! وعادة ، في ظل غياب روح المواطنة يُستبدل انتماء الانسان للدولة بانتماء آخر قد يتم اللجوء اليه ظناً بأنه قد يقدم الحماية اللازمة من الظلم السائد أو خطر الهويات المختلفة أو الفساد! وبالطبع كل ذلك يجزّئ مبدأ المواطنة ويضرب به في العمق، بحيث يعتقد حامل فكرة الهويات الأثنية والدينية أو الحزبية بأن هذا الانتماء هو ذاته ما يمثل الانتماء للوطن! وهذا ما يتسبب بتصدع وشرخ المجتمعات وهدم بُنيتها كما وينشر الفتن ويؤدي لانعدام الحريات والتنكيل بالإنسان وحقوقه وكل ذلك بسبب عدم تقبل الهويات المختلفة من منطلق نظرة عنصرية تجاه الآخر، صاحب الهوية المختلفة، مما يؤدي إلى مزيد من الانقسامات والصراعات التي أصبحنا نشهدها اليوم كما الحال في بعض الدول العربية التي تعاني من الطائفية والعنصرية والتطرف، فعدم الاعتراف بالهويات الأخرى وعدم قبول الآخر المختلف يودي بالتأكيد إلى مزيد من العنف واستقبال موجات جديدة من الإرهاب بكل صوره وأشكاله ، سواء كان محلي بتحريك وتأييد من الداخل أو خارجي بتشجيع من الخارج وتحريض منه.

أن غياب ثقافة المواطنة تقَتل روح الانتماء في الفرد وتجعله يشعر بالاغتراب داخل وطنه ومحيطه، وتتسبب بهجرة كفاءاتنا الى الخارج ، كما تتسبب بنشر ظاهرة المحسوبيات والواسطة فيعم الفساد في كل مؤسسات الدولة  وتنعدم ثقافة وقيمة العمل التطوعي فتغيب مشاركات المواطن في معظم الأنشطة الاجتماعية التطوعية المختلفة ، وتختفي معظم القيم الإنسانية السامية في سلوكيات الناس وتعاملاتهم وتصرفاتهم، كالتسامح وقبول الآخر واحترام حقوق الانسان وقيم التضامن والتعايش والتآخي ، وتَعُم حالة من الاستهتار وعدم المسؤولية تجاه المال العام أو الاملاك والمرافق العامة التي عادة ما نلاحظ تخريبها أو الاستيلاء عليها . حالة عارمة من الفوضى والانفلات التي تهدد الحياة الشخصية والاجتماعية لكل منا في وضعٍ كهذا .

أن علينا التفكير ملياً بما آلت إليه أحوالنا وسلوكياتنا مما نشاهده من مظاهر مؤلمة تعبر عنها . علينا بمراجعة ولاءاتنا لأوطاننا وتعزيز ارتباطاتنا العاطفية بها كما علينا بتعظيم واحترام كل قيم التعايش وقبول الآخر والكرامة الإنسانية، نحن نحتاج لسلطة تَخضع للقانون وتحترمه وتُخضِع الناس بالقانون، كما يقع على عاتق المثقفين ومنظمات حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع مسؤولية التوعية بثقافة المواطنة الحقيقية البنّاءة وتعزيز الانتماء لهوية الوطن أولاً وأخيراً وقبل كل شيء، وتفعيل المشاركة في المسؤوليات والشأن العام بما يعزز علاقة المواطن بوطنه ويخلق روح التضامن والمحبة بين أفراد المجتمع الواحد .

صحيفة رأي اليوم 

الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

غياب الثقافة التضامنية في ظل تراجع المشهد السياسي

ما من شك بأن تقصيرنا وانقساماتنا وتضارب خياراتنا شكل حاجزاً فيما بيننا وبين الشعوب الأخرى مما أدى إلى إضعاف تعاطف العالم معنا ومع قضايانا المصيرية الهامة كشعوب عربية تقبع تحت القمع والظلم ، وما من شك أيضا في أن ظهور التنظيمات والحركات الإسلامية المتطرفة ساهم في تشويه صورتنا العالمية اكثر فأكثر مما باعد بيننا وبين أهدافنا السامية لنيل الحرية والكرامة الإنسانية المفقودة وشوش صورة كفاحنا العادلة لنيل ما نصبو اليه كشعوب مسحوقة تعاني الظلم والفساد والفقر والإذلال ، ومع هذا لا يعتبر ذلك مبرراً كافياً ومقنعاً لكل ذلك السقوط الأخلاقي والسياسي الواضح من حالة الصمت للرأي العالمي العام أمام ما تمر به شعوبنا العربية ومعاناتها في فلسطين أولاً ومن ثم العراق وسوريا واليمن وليبيا ، فهل هناك ما يمنع فعلا من معرفة الحقيقة وإيضاح الصورة وإدراك ما يجري من الظلم الواقع على هذه الشعوب ؟  لماذا يُترك الإنسان وحيداً  يواجه العنف بصدره العاري دون أي اعتراف بحقه في الحياة والوجود ؟ لماذا يتهرب العالم من مسؤولياته الإنسانية والسياسية تجاه شعوبنا المسحوقة ؟

لا أنكر أبدا بأن انقساماتنا السياسية والفكرية وتضارب خياراتنا وتشتتنا أضعف تعاطف العالم معنا لدرجة أننا لم نعد نشهد اليوم حتى لو مسيرة واحدة أو اعتصام أو تظاهرة شعبية تُنظَّم لتعبر عن موقف سياسي واضح او تعاطف إنساني أو تأييد يطالب الحكومات والقوى السياسية بالتعاطف والمشاركة الوجدانية معنا ، وهنا لا أقصد بأن تتبنى الشعوب الأخرى ثمن المساهمة في قضايانا ومآسينا إنما أقصد التعاطف والتضامن مع تلك القضايا وقيمها الإنسانية  .

ربما كان تحييد وغياب مفاهيم الثقافة التضامنية على جميع المستويات ولفترات طويلة من الزمن حتى فيما بين أبناء الوطن الواحد سبباً من الأسباب ، لكن هذا ليس عذرا واضحا لانعدامها  ، لقد باتت حالة لاإنسانية عامة لافتة تنطبق على معظم القضايا ،  مما دفع بنا إلى حالة من اليأس والإحباط وفقدان الأمل بعدالة قضايانا أو انتصارها يوما ، فيما نشهد واقع تقديس المصالح الخاصة للقضايا المشتركة التي تحمل منفعة لدى القوى المتضامنة معها  فقط والتي تتقاطع أهدافها وتطلعاتها معا لتحدد بذلك أصدقائها وأعدائها في حدود تلك المنافع ضمن مقاسات ومعايير محددة  توحد خطاها لبلوغ أهدافها لا أكثر ، وهنا لا بد أن نتطرق إلى العولمة التي لا بد وأنها جعلت هذه القضية عالمية ومنتشرة في مداها فبدل أن تعزز الشعور بالوحدة الإنسانية  زعزعت استقرارنا وعمقت الفجوة فيما بين الشعوب ، وتعمقت لتسيطر وتتحكم وتضع قوانين تجعل مجموعة من دول رأس مالية تتحكم في الاقتصاد العالمي لتبحث لها عن أسواق ومصادر جديدة بما يمد حدودها الاقتصادية ومصالحها مع دول وأهداف أخرى ، فلم يعد التضامن الإنساني من ضمن أولوياتها فالمصالح المادية والاقتصادية دائما ما تفصل وتحكم الأمور ، ولم يقتصر الأمر فقد على الأبعاد المادية أو السياسية إنما وصل إلى البعد الحيوي والثقافي الذي يتمثل في منظومة القيم ، فَتَحَوُّل العالم الكبير إلى ما يشبه القرية الصغيرة ، وسهولة الاتصال والتواصل والتنقل بين أطراف العالم المختلفة كان من المفترض أن يُنتج  بعداً إنسانيا واضحا وتفاهما متبادلا بين البشر، إلا أنه ومع الأسف باتت نتائجه تُظهر العكس ، لقد استُغِلَ مفهوم العولمة لفصل العلاقات الإنسانية فلم ينجح في دمج سكان العالم في مجتمع عالمي إنساني واحد يحمل ذات القيم لتتساوى فيه الشعوب ويتم الاعتراف بحقوقها في تقرير مصائرها مما يضمن سيادتها وحريتها والعدالة لكل فرد فيها ، من هنا نجد تأثيرها السلبي يتنقل فيما بين أثرها الاقتصادي والثقافي على نمط الحياة وعلى نظامها الذي قضى على قيم العلاقات الإنسانية والتفاعل المباشر ، فأصبحت علاقات البشر تحكمها وتتحكم بها المادة فقط . أيضا لا بد هنا أن نشير للأثر الكبير والدور الذي لعبته الوسائل الإعلامية ووسائل الإتصال المختلفة حول العالم في انتشار سلبيات ثقافة العولمة بما يتناقض مع المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة ، مما حدد معايير سلوكية جديدة نشأت في ظل حالة الاقتصاد العالمي والثقافي الحديث الذي نعيشه جميعا بحيث تفتقر هذه السلوكيات للمعايير والقيم والغايات الإنسانية التي تجعل من الإنسان يستشعر وحدة المصير الإنساني ، فلم يعد يدرك بأن أي كارثة بشرية أو بيئية أو إنسانية قد تحدث في أي مكان من العالم قد تؤثر عليه وعلى مصيره الإنساني بشكل أو بآخر .

ها نحن اليوم نعيش في ظل غياب ثقافة التضامن الإنساني وانتشار الفوضى والتوترات والتناقضات وانعدام الأمن والاستقرار ، جميعنا يلهث خلف تطلعات وأحلام متناقضة وأوهام متضاربة دون أي أمل في الوصول إلى ضفة آمنة حتى اللحظة .

بالطبع لا يعود السبب إلى العولمة بذاتها فقط ، إنما إلى كل الأطراف المستفيدة من المصالح والأهداف التي كانت تسعى إليها من خلالها ، إذ لم يكن ضمن أجنداتهم يوما تحديدها أخلاقيا وإنسانيا أو سياسا لكي لا تتضرر مصالحهم أولا وليتحرروا من المسؤولية التابعة لمصائر تلك الشعوب المستباحة والمتضررة ثانياً ، من هنا ومن هذا الموقف تحديداً استفاد القوي وخسر الضعيف ، فاستِفادة الأقوياء خلقت لديهم نوعاً من العنصرية وكره الأجنبي وعدم تقبله ، ورفض اللاجئ والخوف منه ، وخسارة الضعفاء كرست الكراهية والحقد والعداء للغرب ورفضه ، وعدم الثقة به .

لم نعد نستشعر بوجود قضايا مشتركة بين البشر ولم يعد هناك أي إمكانية للتضامن حتى بين شعوب ذات المناطق فيما بينها        ، انتهى عصر الأحلام للمشاريع الوطنية التي توحد تطلعات الشعوب كمشروع الوحدة العربية مثلا ، بات النزاع راسخا فيما بين نخبنا الوطنية والثقافية مما أسس لكل التطرف المذهبي والسياسي والطائفي الذي نعيشه اليوم ، بالتالي فقدنا أي تواصل فكري وثقافي فيما بيننا ، حالة من الضياع العام والأنانية السياسية والاقتصادية المدمرة ، كل هذا التفكك والغياب لكل القيم والمعاني السامية حول العالم ساهم بشكل فعال في قتل الضمير العالمي وغيابه عن المشهد الإنساني في قضايانا المطروحة كالأمن والحروب ، السلام والفقر والهجرة واللجوء ، فقدان الكرامة وغياب العدل .

 عالميا نحن نعيش حالة مخاض صعبة جدا وعسيرة ، وصلت بنا إلى أزمة فكرية وسلوكية حقيقية ، فعلاً وممارسةً ، حالة من التخبط داخل الدول والمجتمعات وفيما بينها ، ورغم كل ما نعيشه من ثورة اتصال وتواصل فكري وتقدم علمي في شتى الميادين إلا اننا لم نصل بعد إلى المستوى الذي يجعلنا نُقدّر معنى التضامن الإنساني فنشعر بآلام الآخرين ومعاناتهم أينما وجدوا على هذه الأرض دون تمييز لأصولهم وأعراقهم وعقائدهم الدينية .

 الصورة قاتمة وإحياء ثقافة التضامن بين الشعوب صعبة فالظلم والقهر سيد الموقف ، لكن علينا أن نخلق عالما جديدا بالقوة والمثابرة والصبر . لنعاود مراجعة حساباتنا الثقافية والفكرية البناءة ، ونتضامن مع كل فرد أو جهة تسعى جاهدة لذات الهدف وذلك لإحياء تضامننا الإنساني وجعل تلك القضية الهامة على سلم أولوياتنا لبناء أخلاقيات عهد جديد نرجوه ونتمناه جميعا لأبنائنا .

- صحيفة رأي اليوم 

السبت، 26 نوفمبر 2016

صباح بشير: خصوصية الشخصية وخلط المفاهيم

إن بناء الحضارة في المجتمعات تستند على بعض الأسس الأخلاقية الهامة وذلك لتصل إلى غاياتها الإنسانية الكاملة ، ويعتمد ذلك على وعينا كأفراد ومجتمعات وإدراكنا للكثير من المناحي الحياتية المختلفة واحترامنا لمنظومة القيم والمعارف الإنسانية . والحرية هي أحدى القيم الإنسانية والأخلاقية النبيلة التي علينا جميعا أن نؤمن بها ونسعى دائما لها ، وهي تحمل المعاني السامية التي تعود على الإنسان بالراحة النفسية والإحساس بالسعادة وتسمح له باختيار طريقه وأعماله وسلوكياته فتحقق له مصالحه ومآربه وإنجازاته في الحياة .

يولد الإنسان حراً ويجب أن يعيش حراً في ممارسة حقه الطبيعي في التعبير عن رأيه واختياراته الشخصية مع الاعتبار لعدم المساس بحرية الاخرين ، إلا أننا وللأسف عادة ما نصطدم بعدم احترام الحرية الشخصية للفرد في مجتمعاتنا العربية ، ولا بد أننا عانينا جميعا من ذلك بشكل أو بآخر بسبب مفاهيمنا السلوكية التي تفتقد للمنطق والتفكير الواعي .

إن احترام الخصوصية الشخصية للفرد هو من أهم الحقوق الإنسانية التي تحفظ كرامة الإنسان التي لا تستقيم الحياة بدونها ، لذا فعلينا جميعا تقدير ذلك باعتباره من أهم الحقوق وأقدسها . لكن ومع الأسف ، مفاهيمنا الاجتماعية بمجملها تحمل طابعاً من العنف والتطرف ، كما أننا غالباً ما ننتهج أساليب التفاهم بالقوة وفرض الرأي وعدم الإلتزام بالحوار البناء وتبني بعض الألفاظ القاسية البغيضة في حواراتنا ونقاشاتنا فتسيء لمشاعر الآخر وكرامته ! ونسمح دائما لأنفسنا بالتطفل على الآخرين وعلى خصوصياتهم التي لا تعنينا .

إن انتشار هذه السلوكيات عبر ثقافتنا وتربيتنا ما هو إلا مؤشر واضح على انحدار المستوى الأخلاقي ، فلطالما تضايقنا من المتطفلين وانزعجنا منهم وتكدرنا بسببهم ، فنحن جميعا نحاول دائما كتم اسرارنا الخاصة والمحافظة على خصوصياتنا وحمايتها من تدخلات الآخرين ودوافعهم التي قد لا تعنينا بشيء لكنها تجعلهم يقتحمون حياتنا للاطلاع عليها واكتشاف القسم المستور منها ، دون أي إدراك بأنهم بذلك اعتدوا بشكل صارخ على الاخر وحريته وهدروا كرامته وجرحوا مشاعره وهددوا بذلك جزءاً من أمنه وأمانه الخاص .

إن شر الناس من تطفل عليهم وعلى حياتهم وتدخل بها حتى لو كان ذلك بحجة حسن النية أو إسداء النصيحة ، فالنصيحة لا تعطى إلا لمن يتقبلها ويرغب بها ماذا وإلا علينا أن نصمت وأن لا نسمح لأنفسنا بالتدخل والتطفل على الاخرين .

لنعود أنفسنا بأن احترام خصوصيات الآخرين من أهم المبادئ الأخلاقية التي يجب علينا جميعا الإلتزام بها ، فلا حرية حقيقية ولا كرامة للإنسان في ظل تدخل الآخرين بشؤونه الخاصة أو قراراته الشخصية ، فلماذا نعتدي على الآخرين بطريقة تفكيرنا وسلوكياتنا التي لا تعترف بالفرد ككائن حر مستقل بذاته ، إلى متى سيظل الفرد لدينا يعيش حالة من التهميش لصالح الأعراف والعادات السلبية التي تخص القطيع ؟ ما الذي يمنعنا من الخروج من العقلية القبائلية ؟ الكل يتدخل في أبسط تفاصيلك ! لباسك ، مظهرك الشخصي ، طريقة تفكيرك ، معتقداتك وأفكارك واهتماماتك وخياراتك في الحياة ، ذوقك الشخصي وعلاقتك بربك ! حتى أنهم يحاسبونك على نواياك التي لم يحصل وأفصحت عنها بعد !

إن حياة الانسان وأسراره وقضاياه الشخصية ما هي إلا ملك شخصي له وحده ، وهي حصنه الداخلي الذي لا يجوز التدخل به او الاطلاع عليه ، إنه ستره الخاص الذي لا يجوز انتهاكه لأي سبب كان . إن مهاجمة الفرد بهذه الطريقة اللإنسانية  لشخصه وفكره أو معتقده وعدم احترام حقه باختيار ما يناسبه بكل حرية يتسبب بتدميره معنوياً وفكرياً وأخلاقيا ، كما ينتزع منه البعد الإنساني ويقمع شخصيته ويعزله عن مجتمعه ويؤثر على انتماؤه ويعطيه شعوراً بالاغتراب عن محيطه مما يؤثر على عطاؤه كعضو فعال في المجتمع .

وهنا لا أدعوا للإنغلاق أو العزلة لكنها دعوة لتصحيح مسارنا وانتهاج المنطق والتفكير السليم والسلوكيات الإنسانية التي تحفظ خصوصياتنا من الإنتهاك وحقوقنا وحرياتنا في التفكير والمعتقد والتوجهات والاختيارات الشخصية من الانتهاك  .

لنستشعر دائما المبادئ الإنسانية الراقية ونتماشى مع التطور لكي نتقدم مع المسيرة البشرية والتحضر السليم .

- صحيفة رأي اليوم 

الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

أين نجد التسامح في يوم التسامح العالمي ؟ !

في عام 1996 وبتاريخ 16 من تشرين الثاني – نوفمبر ، قدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة للدول الأعضاء دعوة للإحتفال باليوم الدولي للتسامح ، وذلك للقيام بالأنشطة المناسبة الموجهة للمؤسسات التعليمية بشكل خاص ولعامة الجماهير بشكل عام ، ونصت الوثيقة الخاصة بمؤتمر القمة العالمي بالتزام الدول الأعضاء والحكومات بالعمل على النهوض بحرية الإنسان وتقدمه في كل مكان وتشجيع لغة الحوار واحترام الآخر وثقافتة والتسامح والتعاون فيما بين مختلف الحضارات والشعوب .

مع الأسف الشديد لم نشهد حتى اليوم في عالمنا العربي على وجه التحديد سوى تنامي لظاهرة التطرف وكراهية الأخر وعدم تقبله ، وبرزت العنصرية والكراهية ! احترام حقوق الإنسان والتسامح وقيم التعايش لم تعد قيد الحسبان ! يعلو صوت خطاب الكراهية ونسمعه في كل مكان خاصة في الكثير من الوسائل الإعلامية التي تدعو وتحرض على الطائفية الدينية والأثنية ، فانتشرت الحروب بين أبناء الوطن الواحد والانقسامات وتشتت شعوبنا في شتى أصقاع الأرض ! ولم نعد نميز بين القاتل والمقتول وبين المجرم والبريء الكل ضحية الكل ! فأين وصلت قيم التسامح في العراق مثلا أو سوريا أو اليمن أو ليبيا وحتى فلسطين حيث الانقسام الذي لم يجد طريقه الحقيقي إلى النور بعد !

هذا حال التسامح اليوم على مستوى الدول أما على المستوى الاجتماعي فحدث ولا حرج ! فلقد أصبحت قيمنا العليا كالتسامح ونصرة المظلوم والكرامة والعدل وغيرها من القيم ما هي إلا شعارات واهية وظاهرة صوتية لا أكثر نتغنى بها في المحافل الرسمية وأمام كاميرات وسائل الاعلام المختلفة ! بينما واقعنا المرير يعكس الصورة الحقيقية لما أصبحت قيم التسامح والإنسانية من أرخص القيم لدينا ! وهذا هو حالنا اليوم ويشهد على ذلك كل تلك الصراعات والنزاعات على قضايانا الهامشية وتصاعد النزعة الانتقامية بين افراد الوطن الواحد وما هذا إلا دليل واضح وصريح بانهيار منظومة القيم الإنسانية في مجتمعاتنا ، فتُزهق أرواح الأبرياء دون أدنى إحساس أو أي شعور بالمسؤولية !

بعد كل ما نعايش من حروب ومعاناة وانقسامات ، لماذا لم ندرك بعد بأن علينا أخذ قرار إيجابي باتخاذ موقف حقيقي مؤثر في واقعنا ، ونعمل جميعا مؤسسات وأفراد ووسائل إعلام بهدف إعادة غرس قيم التسامح واحترام الآخر وذلك لنتمتع جميعنا بحقوقنا وحرياتنا . وحتى تصبح مجتمعاتنا قادرة على احترام وقبول الآخرين وتقبل التنوع الثري وتقبل الثقافات المختلفة ، علينا بتربية وزرع روح المحبة والتسامح الإنساني في أطفالنا من خلال مناهجنا الدراسية المطلوب مراجعتها باستمرار والتدقيق فيها ، ومن خلال نشاطاتهم التربوية ، فبالمعرفة والعلم والإتصال تُبني حرية الفكر لدى الشعوب ، فنحصد الخير والمحبة في مجتمعاتنا التي تفتقد الوئام والسلام لرفضها فكرة التعددية وتبنيها للتعصب الفكري والديني والقومي .

أيضا علينا أن نربي أبنائنا بأن التسامح يعني حرية الفرد الكاملة في فكره وعقيدته وعلينا بتقبل الآخر كما هو لا كما نريد له أن يكون ، علينا بتعليمهم بأن الاختلاف طبيعي بين البشر بطبائعهم وسلوكاتهم ومظاهرهم الخارجية ومعتقداتهم ولغاتهم وأفكارهم ، والإقرار بكل هذا ما هو الا تقبل للحياة والبشر والطبيعة ، فلا نربيهم على  العنصرية والتمييز ونغرس فيهم الكراهية وعدم تقبل الاخرين ، مما يقودهم الى اعتماد العنف كوسيلة وحيدة لفرض ذاتهم وكينونتهم !

 أبنائنا هم أبناء المستقبل ونريد لهم أن يعيشوا بسلام وأمان ، دون عنف أو تمييز لأي سبب كان ، نطمح لهم بحياة موفقة ناجحة وآمنة فإن فشلنا نحن بتحقيق ذلك لأنفسنا دعونا نحاول لأجل أولادنا فما ذنبهم ؟ يستحق أبنائنا ان يعيشوا بسلام ويتمتعوا بحقوقهم الإنسانية الكاملة فبدون التسامح لن يكون هناك أي مستقبل لنا أو لهم ، دعونا نمنح الفرصة لأنفسنا ولهم ، ولنبدأ بداية مثمرة وجديدة ، فأكثر الشعوب تحضراً هي تلك الشعوب التي تنتقد نفسها بنفسها لتتحول دائما نحو الأفضل بما ينفعها ويساهم في تقدمها الحضاري .

وسعياً لتحقيقي حياة أفضل لأنفسنا ولأبنائنا ومجتمعاتنا لنعلم جميعا بأن قبولنا بالآخرين واحترام وجودهم وثقافاتهم سيؤدي بنا إلى السلام والأمان الذي ترسخه معاني التسامح والاحترام المتبادل فيما بيننا ، وفيما بين الشعوب الأخرى حتى نصل جميعا لتحقيق النهضة والرفاهية والراحة  .

أخي الإنسان : إن المواقف واللحظات الإنسانية كثيرة ومتنوعة في حياتنا ، سواء كانت في أوقات الحرب أو السلم والراحة ، لذا تصرف بمسؤولية وكن محباً للآخرين متسامحاً فليست البطولة في حمل السلاح وقتل الآخر.

 إن ما يبقى خالداً بذكراه هو مواقفك الإنسانية المؤثرة التي تلعبها اليوم فمهما كانت بسيطة لربما يكون دورك الإنساني الذي تساهم به اليوم قد يتسبب غداً في تغيير العالم ليصبح العالم أفضل بكثير مما هو عليه الآن.

- صحيفة رأي اليوم 

الاثنين، 14 نوفمبر 2016

صباح بشير: نساؤنا المبدعات فيما بين الطموح والجروح

حققت المرأة العربية العديد من الإنجازات الهامة التي غيرت من النظرة التقليدية لصورتها ، فكان لها بصمة وعلامة فارقة تجسدت عبر الكثير من مساهماتها البناءة في المجالات الإنسانية والثقافية ، السياسية والإقتصادية والعلمية .

نعيش اليوم الحروب والانقسامات والأوضاع الاقتصادية  والإجتماعية الصعبة ، فأصبح المبدع العربي بشكل عام يحتاج لإرادة وعزم وقوة كبيرة ليتمكن من الصمود والاستمرار ليجسد أحلامه إلى واقع ، ولا يخفى على أحد حجم تلك العقبات التي تجتاح طريق الإبداع فتمنعه من الوصول ، إلا أن نساؤنا المبدعات كان لهن الحظ الأوفر من تلك العوائق ، فكل مبدعة امتلكت شيئاً من طموح يحيط بها ويلح عليها محاولةً فتح آفاقها الإنسانية أو العلمية للمساهمة في إضاءة قسماً ما من فضاءاتنا ، لا بد وأنها اصطدمت بالكثير من الأمور التي ضَيَّقَت عليها مساحتها لتعيق انطلاقها نحو طريق الإبداع ، ولا بد أنها شعرت بأن الطريق متعب ، شائك وطويل، وواجهت الكثير من التحديات والصعاب التي تؤثر على سيرها وتقدمها ، لذلك نلاحظ قلة النساء المبدعات نسبيا مقابل الرجال في الكثير من الحقول الإبداعية لدينا ، وفي ظل ثقافة تفرضها آيديلوجيات اجتماعية مع بعضٍ مما جاء في النصوص الدينية التي ترفض الكثير من الأعمال الإبداعية ، مما يفرض على المرأة المبدعة الالتزام بأدوار اجتماعية تقليدية تؤدي بها إلى التضحية بالكثير مما تنفرد به من خصائص وميزات إبداعية قد لا تتناسب ورؤية مجتمعات غير مرنة على الإطلاق ليؤثر ذلك سلباً على تطورها ونموها الإبداعي .

بشكل واضح وضعت الكثير من النصوص الدينية الخاصة بالمرأة حدوداً لأدائها ودورها في المجتمع الذي تسلح هو بدوره بتلك النصوص لحماية عاداته وتقاليده . قد تكون هذه النصوص وتفسيراتها تهدف إلى ضبط المجتمع أو إصلاحه من خلال معايير أخلاقية معينة خاصة بمجتمعاتنا لتوضح دور المرأة وترسمه ، إلا أننا نجد بأن العديد من التفسيرات الخاطئة للكثير من النصوص قد أسيء فهمها وتطبيقها ، لتجعل المرأة تبدو وكأنها غير كاملة الأهلية فيقوم الرجل بتحديد وتقويم مهامها وأدوارها وواجباتها في الحياة ، فتظهر وكأنها تعيش تحت الوصايه إلى الأبد ، وحتى اليوم لا زلنا نجد بعض الرجال لا يؤمن بتلك الطاقة الكامنة في المرأة ولا يشجعها ولا يهتم بها كزوجة أو أخت أو إبنة مبدعة ، ولا يرى فيها سوى دورها النمطي كأم ومربية وربة منزل ، وفيما لو كانت المرأة قوية الشخصية نتيجة ظروفها او تجاربها في الحياة أو دراستها أو عملها ، فإننا نلاحظ بأن  الكثير من الرجال يتجنب الاقتران بها بالرغم من ميزاتها تلك التي تدعو للفخر والثقة وتؤهلها لبناء زواج وأسرة سعيدة ناجحة ، وقد شهدنا الكثير من النساء الفاعلات في الحياة الأسرية ممن يتحملن المسؤولية في كثير من الحالات اثناء غياب الزوج  بداعي المرض أو السفر أو غيره من الظروف القاسية ، فتتخذ هي القرارات وتقوم بإدارة بيتها وأسرتها بكل فاعلية ونجاح .  أيضا هناك الكثير من الرجال الذين يولون اهتماما لشكل المرأة وصورتها فقط دون النظر لإنتاجها الفكري أو الإبداعي بالرغم من إثباتها لنفسها وتحقيقها للعديد من الإنجازات والمكتسبات إلا أن نظرتهم  هي ذاتها مع الأسف لم تتغير كثيرا !  فلا زالت الكثير من النساء تعاني الأمَرّين لإثبات أنفسهن في مجتمعات مجحفة بحقهن ! وتتباين حدة هذه النظرة في مجتمعاتنا العربية من منطقة جغرافية لأخرى ، إلا أنها تحمل ذات المضمون بشكل أو بآخر، فمنهم من يرفضها ويراها مُسترجلة  فهي عادة ما تكون مستقلة وجريئة وهذا ما ينافي طبيعة التفكير السائد الرافض لتجاوز النمط الأنثوي التقليدي ، ونحن دائما ما ننتظر من المرأة تنفيذ دورها الأنثوي بحسب رؤية مجتمعنا وتقاليده وموروثاته ، فإن شذت عن ذلك محاولةً خلق عالما مغايراً لها لتتبوأ موقعا من الإبداع فغالباً ما تُنبَذ اجتماعيا ! مما يتسبب في التضييق عليها والتشويش على تركيزها وعطائها ويؤثر بذلك على أدائها وإنتاجها ويحول دون نجاحها !  بينما نجد بأن نظرة مجتمعاتنا اكثر تسامحاً مع الرجل المبدع وأكثر تلائما مع نموه الإبداعي والفكري ، فهو يمتلك من المزايا الاجتماعية ما لا تمتلكه المرأة  من الاستقلالية ومساحة الحرية والثقة اللازمة لتشجيعه ودعمه ليتطور ويحقق ما يصبو إليه من النجاح والإبداع .

ضمن هذه الأجواء السائدة وما لها من انعكاسات وثأثيرات سلبية عميقة على المرأه وإبداعاتها ومجريات حياتها ،  بالتالي بقرار لا واعي منها ستفقد المبدعة جزءاً من ثقتها بنفسها وإمكانياتها أو الشعور بقيمتها مما يعرضها لليأس والإحباط!

من هنا وكما نرى فأن المرأة المبدعة لا تزال تعيش أوضاعاً ضاغطة ولا تزال تحاول الخروج من قوقعتها الشائكة بحثاً عن مكانٍ ما لا تشعر فيه بالاغتراب عن عالمها المبدع ، فتعيش حريتها وترتقي بأدائها وتنطلق لتكون معطاءة فاعلة ومؤثرة ذات بصمة ، بعيدا عن كل ما يتسبب بتقييد إنتاجها الإبداعي ، تارة بإسم الدين وتارة أخرى بإسم العادات والتقاليد وتارة بأسماء ومسميات أخرى!

- صحيفة رأي اليوم 

الجمعة، 4 نوفمبر 2016

صباح بشير: الربيع الدموي وثقافة الكراهية

يولد الإنسان حراً محايداً، بعد ذلك ينتهج سلوكاً وتفكيراً يوافق تربيته ونشأته المحيطة مرتبطاً ارتباطاً وثيقا بالمنظومة الاجتماعية وقيمها وقوانينها من حوله ، وبطبيعته الإنسانية فهو دائما ما ينشد العدالة والحرية والأمن والسلام .

فى السنوات الأخيرة برزت الطائفية كَسِمة للعديد من المجتمعات العربية لتصبح العلاقات بين الطوائف المختلفة محل اهتمام الجميع ، وهنا سنتحدث عن الطائفية بشكل خاص التي ما أنتجت لنا سوى الكراهية وعدم تقبل الآخر ورفض ثقافة التعددية في مجتمعاتنا التي فشلت كثيراً من الدول في دعمها وترسيخها مما دفع بخطاب الكراهية ليحتل الصدارة فيغدو ثقافة عربية بامتياز ! هذا الخطاب الناتج عن العديد من التراكمات الزمنية استفادت منه بعض القوى الدينية والاجتماعية والسياسية وذلك لاستثمار هذه الثقافة وتوظيفها وفق أجنداتهم الخاصة ، علماً بأن الجميع يتفق على أن الكراهية ما هي إلا أحد مؤشرات التعصب المؤدي إلى العنف ، ومع ذلك نستمع يوميا إلى الخطابات التي تحرض عليها وعلى إقصاء الآخر وقمع حريته تحت مبررات مجتمعية أو دينية تستمد شرعيتها من بعض النصوص الدينية التي أُسيء فهمها وتفسيرها ! ولا أعرف لماذا لا نكون أكثر ذكاءً وفطنة وإدراكاً للحقائق ، ولماذا لا نتعلم مما نعيشه يوميا ! ألا نشاهد ما جلبت الطائفية والعنصرية والتطرف في البلاد العربية ؟  لبنان سابقا واليوم نجد العراق وسوريا وليبيا واليمن ،  نعيش الحروب والفوضى باسم الربيع العربي تارة ، وبإسم تحرير البلاد من الطغاة  تارة أخرى  أو باسم القضاء على الإرهاب وغيره مما يؤدي إلى زيادة التفتت والصراع .

 نرى كل ذلك وكأنه صُمِّمَ ليُشغل العرب بعضهم ببعض ، وبالتالي تحطمت كل الآمال المَرجوة من ذلك الربيع المزعوم ! كما تردت الأوضاع الاقتصادية والإجتماعية وانتشرت البطالة وكثرت المآسي الدموية وتشرد العرب في جميع بقاع الأرض  !

نحن نتقبل ونعلم بأن الطوائف جزءاً من البنية الاجتماعية لمجتمعاتنا ، لكن ما يؤلم حقا هو ثقافة التعصب وعدم تقبل الآخر الذي يسيطر عليها ، مما سبب لنا كل ما نعيشه من نزاع وألم وانقسامات وتشتت ، ومن المعروف أيضا أن ما نمر به اليوم من الطائفية التي فشلنا من احتوائها زاد في انغلاق أبناء الطوائف على أنفسهم مما شكل حواجز نفسية وزرع سوء الفهم وأدى إلى عدم الشعور بالرابطة الوطنية المشتركة التي تجمع أبناء الوطن الواحد ، فبرزت الروح الفردية بطبيعتها الأنانية العدوانية متسببةً في كل ما نشاهد من القتل والدمار والمعاناة البشرية ، وها نحن نحصد ما جلبه لنا البغدادي مثلاً من التطرف والعنصرية ، وغيره من المتطرفين الذين اتخذوا الدين مطية لمصالحهم وأفكارهم الشريرة ، فنجد العرب يعبدون رباً واحدا ويقرأون القرآن إلا أنهم يقتلون بعضهم البعض فالقاتل مسلم موحد بالله يردد ” ألله أكبر” والمقتول مسلم موحد بالله يرددا الشهادتين! فتسيل دماؤهم لتملأ شوارع المدن العربية ! هذا ما جلبه لنا ذلك الربيع الدموي الذي أعادنا وأعاد بحركة التاريخ إلى الوراء حقبة من الزمن !

ألم يحن الوقت لأن ندرك بأن التعصب وإقصاء الآخر هو البيئة المنتجة للكراهية والموت ؟ لماذا نرى المسلمين في أوروبا وأمريكا يعيشون بسلام  ومحبة دون إثارة أي نعرات طائفية أو دينية ؟ بالطبع لأنهم وجدوا دولاً تنعم بالديمقراطية والسلام ، تحترم القانون والإنسان وحقوقه مؤمنةً بالمساواة والعدل ملتزمةً بالحماية الاجتماعية لجميع مواطنيها . إن الآثار السلبية التي ستخلفها الطائفية لنا ستتسبب في المزيد من العقبات أمام أي تغيير جذري مستقبلي مما سيؤخرنا عن التقدم الحضاري ويطيل وجود الصراعات . علينا ان ننتبه بأن الأمر متعلق بنا وبثقافتنا وتربيتنا وقوانين بلادنا ، فبيئة التطرف ورفض الآخر لن تنتج لنا سوى مزيدا من التعصب والكراهية وتتسبب بحصاد المزيد من الأرواح التي لم تختار يوماً خوض نزاعات طائفية اجتماعية أو سياسية .

لا أدرك حتى الآن كيف نقتنع بأن الله عز وجل الرحمن الرحيم ، سيدخل أحدهم الجنة لأنه قتل إنساناً آخر ! فهل يعتبر سفك الدماء أحد شروط دخول الجنة  ؟!  ما أشد جهل الإنسان الذي يؤمن بالأفكار العنصرية ويتبناها في تقييمه للآخرين ونظرته إليهم .

 من العار أن يفتخر الإنسان بسفك الدماء حتى يدخل الجنة ! إن ما يستحق ان نفتخر به حقا هو رصيدنا الإنساني من الحكمة وضبط النفس .

- صحيفة رأي اليوم 

صباح بشير: المرأة العربية بين الفرص والتقاليد

  ما زالت المرأة العربية تخوض كفاحاً مستمراً لنيل حقوقها الاجتماعية والإنسانية، ومساواتها مع الرجل في جميع المجالات، فما الذي تمّخض عنه كفاح...