منذ مدة ليست بالقصيرة بدأت أشعر بأن كثير من الصور الحياتية قد فقدت بريقها الذي كنت أعهدها به، إذ وأنت تخوض حياتك في ربوع وطن حزين تنبت منه ليعيش فيك، منغمساً بأيامه وحكاياته وأحداثه المتدفقة، وفي ظل واقعٍ غريبِ الوجهِ كئيب الملامح، تشعر بأنك غير قادر على الانعتاق من نفسك التي تواجه ضبابية ما في العثور عليها، ولوهلة .. قد لا تتمكن من المضي قدما فالمعاناة من عدم الانسجام مع المحيط من حولك تجعلك نهبا للأفكار الانعزالية، أحاسيس مبهمة ومشاعر متناقضة! فلا شيء ينتمي إلى ما تشعر أو يحرك فيك ما قد يثير الاهتمام، لا تلك المعايير الاجتماعية السائدة من العادات والتقاليد البالية أو الأفكار أو الطقوس المختلفة، ولا تعاملات الناس أو سلوكياتهم، أفراحهم، أتراحهم! لا شيء يشدك لتتفاعل معه، لدرجة أن كل هذا العالم من حولك قد يبدو غريب وبعيد عنك، لا تمثله أو يمثلك بشيء! تقف مراوحاً مكانك في فراغ وجودي وإحساس بالعجز من عدم القدرة على تغيير المحيط من حولك، يشدك الى العدم وإلى تلك الحياة المفرغة من الحياة! الغريب في الأمر أن ما قد يضايقك أو يزعجك قد لا يضايق أو يزعج الكثير من الناس، فكل صورة نعايشها في حياتنا قد تحمل الكثير من الدلالات والمعاني لكن اختلاف المتلقي قد يجعل من الصور المرئية المُعاشة قابلة للعديد من القراءات المتباينة المتفاوتة، وهكذا فإن كل إنسان يقرؤها بقدرته الخاصة على قراءة المواقف والأحداث أو الكلمات والمعاني والصور، وذلك بمستوى وعيه ومن خلال تجاربه الحياتية وفقا لثقافته المكتسبة ضمن إطار معين في محيطه وبيئته وتربيته الخاصة.
حزينة أنا على الوطن، فلا أحد يتصرف كمواطن حر كريم، تشعر بأن الفرد مجرد متفرج أو مستأجر أو ضيف عابر غير مقيم! لا أحد يريد أن يكون جزءا من الحل لذا غدى الكل جزء من المشكلة! لا أحد يلتزم بالقانون ولا أحد يؤدي واجباته بإخلاص، تجاوزات لا زالت تعيش مستمرة بقبول الناس بها وتعودهم عليها! بلغت الضوضاء ذروتها وفاق الجهل كل الحدود، استبدت الانانية واختفت روح الجماعة، تلاشت المحبة واستشرى التعصب والحقد ورفض الآخر المختلف! انتشرت ثقافة الكراهية والافناء والمذاهب والإكراه والتزييف والتأوييل وكبت الحريات! وتناسى الجميع بأننا بشر نتأثر سلبا أو إيجابا بمجريات الحياة.
وفي محاولة يائسة للعثور على بهجة ما تعيد إلى نفسي نظرتها المتفائلة تلك التي عادة ما أطل بها على الأفق، أخذت أفكر متأملة بواقع يفرض نفسه بصرامة، فلست أفهم أنا وقد شارفت على منتصف النهار من العمر حتى بدأت أشعر بما يحمل انعكاساته العميقة على الفكر والروح، قد أعلل ذلك بصحوةٍ متأخرة بعد أن شح عليّ الوقت انشغالا بالحياة، فما عساه ذلك الإنسان المسالم أن يفعل في لُجّةِ هذه الموجة المتلاطمة من الانفعالات النفسية؟ ثم بعد ذلك إن رغبت بالانخراط الاجتماعي وسط كل هذا الضجيج الذي يعج تملقا ونفاقا وتصنعا ومداهنة، لتكون مقبولاً محبوباً بين كل ما ذُكر من ممارساتٍ وتناقضات وسلوكيات، وأحداث وأفعال وصور، فعليك القبول بأن تكون ذاتاً تقليدية، ترى تسمع وتشاهد ما لا يروقك بصمت، دون أي تعليق أو ردود أفعال! كل ما عليك هو أن تهز رأسك موافقاً على كل ما رأيت أو سمعت دون أي اعتراض، بعد ذلك يكون لك الخيار فيما لو فكرت ثم قررت أن تكون كما أنت وعلى طبيعتك ، تعبر عن نفسك وتنطق بلسانك لا بلسان القطيع، هكذا تكون قد حكمت على نفسك أن تعيش مغرداً خارجاً عن السرب، لتصبح مذموما مطروحا، هناك مُبعداً على هامش الحياة!
كان الإنسان ولم يزل يبحث عن كل الحلول الممكنة لتحسين ظروفه القاهرة القابعة على أرض الوطن، وذلك في سبيل كسر كل الحواجز التي قد يعجز في تخطيها مع كثير من الأسئلة المربكة التي قد لا يجد لها إجابات واضحة أو تفسير، لكنه بعد اليأس يبدأ البحث عن حاضنة أخرى بديلة مهما كانت غريبة أو جديدة، فقد تساعده على التصالح مع ذاته والحياة وتسهل عليه العثور عليهما، هكذا يكون الوطن الأم قد فشل في تحقيق ذات الفرد، كونه غدى طارداً للنخبة الصفوة من أبنائه، جاعلاً منهم يغطسون في يأس وانشطار وغربة موجعة في ظله بين أهلهم وذويهم، وحينئذٍ قد لا يعود هناك أي مبرر للبقاء في مكان قد طالته شيخوخة مبكرة في الممارسات والسلوكيات، والتوجهات والأفكار والعلاقات الإنسانية.
إن ما يعزز شعور الإنسان بالاغتراب في وطنه هو ذلك الإحساس المقيت بالغربة عن المحيط، مما يزيد الهوة اتساعا! شعور يجعلك هائما على وجهك يمنعك من التفاعل مع الاخرين أو التودد إليهم، لتضعف بذلك الأواصر وتختفي الروابط! فكل الأحداث والوقائع المحيطة بك تشعرك بأنها قد فَقَدت كل دلالاتها ومعانيها، وحين تتأمل مَن حولك فإنك تستغرب من سعيهم خلف أفراح كاذبة يتشبهون فيها بعضهم ببعض عبر تقليد أعمى في عالمٍ زائف ليس لهم منه شيء! وها هي كل المستجدات والأحداث من حولك تُعلِمُك بأن أحلامك لا زالت مؤجلة، فهي مرتبطة بوصول ذلك اليوم الذي تتحقق فيه كرامة الوطن باحترام الإنسان! وحتى ذلك الوقت هل تقبل أن تعيش بانفصالٍ تام عن واقعك؟ وهل توافق أن تحيا الانبتاتٍ المؤسف على ماضيك وحاضرك وانعدام الثقة بمستقبلك؟ شعور مقيت بالعجز والقهر والحيرة، يا له من يقينٍ حزين حين تتناثر مشاعرك مستفيضةً مدركةً حجم خسائرك التي غدت تركض أمامك تجرجرُ أذيال خيبتها بما كان وما هو كائن، لتبيتُ فيك تفاصيل الخيبة وكل الترسبات ومشاعر الاستلاب والاغتراب!
وباختصار لأنك لا تريد أن تحقد أو تَكره أو تجرح أحدا، تقرر النأي بنفسك حزيناً تاركاً جسد الوطن، منسحبا من كل الأمكنة بكل ما فيها من فصول، بأشجارها وأوراقها المتطايرة المتساقطة على أرض تتعطش للحياة، تقرر أن تنسل هناك بعيدا عن كل الوجوه العابسة والأجساد المرهقة والأفكار المتيبسة والقلوب المتعبة، تلك التي ملأتها الرجفة والخوف، مبتعداً متنحياً عن كل الانشطارات والمساحات المرعبة من الأحداث والأفكار التي لم تعد لك طاقة على حملها، تاركاً من خلفك كلَّ الهواجس والمُجريات وكل المسارات، وكل الكبار والصغار، وعالمهم الضيق الذي لم يتسع يوما لك، مناديا نفسك والكون بكل ما أوتيت من نبض وفكر وشعور : حيَّ على الحياة …
- صحيفة رأي اليوم